الثلاثاء، رمضان ٠١، ١٤٢٦

المنافقون والانتهازيون.. أخطر أشكال الإفساد والفساد..

أولاً ـ تمهيد
علمتني الممارسة الإدارية وظروف الحياة عامة، ونتائج الاطلاع على سلوك الناس والعاملين وعلاقاتهم، أن تحقيق النجاح، وكسب الاحترام الفعلي، لا يكونان لمجرد الرغبة أو بالمراكز الرسمية، وإنما بالإرادة والسلوك القويم والأفعال.. وأن الوصول إليهما، مرهون بتحقيق شرطين متكاملين.. وهما دون ترقيم:
** الاستقامة الأخلاقية المطلقة، في السلوك والتصرفات، والعلاقات في جميع الاتجاهات، وفي كل المواقف والضغوط..
** الجدّية في العمل، وبذل أقصى الإمكانات المتاحة للإنسان، والسعي دوماً لإتقانه وتطويره..
على هذا، فإن النفاق والانتهازية، يشكلان أسلوباً كثير الضرر في الحياة الإدارية والعامة.. لأنهما يخالفان أحد هذين الشرطين، ويسيئان إلى الأخلاق والاستقامة.. وبالتالي فإن آثارهما السلبية تُشوش وجه الحياة وتعرقل مسيرة الإدارة، وكل مسيرة.. والنفاق والانتهازية، صفة سلوكية مضرة، وتعتبر أحد أشكال الفساد الذي ينخر في الجسم الاجتماعي والإداري، وفي الإطار المحيط بالقياديين وذوي المناصب والرؤساء والمديرين.. مما يدفعني للحديث عنهما والتحذير منهما..
ثانياً ـ المفهوم العام
1- لن أعمد إلى التعريف.. لأنه يجب أن يكون جامعاً مانعاً، كما يقول الحقوقيون.. جامعاً لكل معانيه، ومانعاً لأية إضافة.. مكتفياً بإيراد مفهوم مبسط، يتلخص في أنه السعي لاستغلال الفرص لتحقيق أطماع شخصية ذاتية.. مهما كانت طبيعتها، وطريقة الوصول إليها، ملتوية وغير مستقيمة.. فالمهم عند المنافق والانتهازي أن تكون نتائجها لمنفعته الشخصية، ولو تناقضت مع الأخلاق والمصلحة العامة..
2- ومن أشباه المنافق والانتهازي أو ممن يدور في فلكهم وينسج على منوالهم.. أذكر: مسّاح الجوخ.. المخادع.. المراوغ.. المرائي.. المتزلف.. المتسلّق.. النمّام.. الدسّاس.. ذو الوجهين، ومنهم من تنطبق عليه صفة أسوأ، فهم متعددو الوجوه، يتلوّنون كالحرباء بحسب ما يخدم منافعهم ومآربهم.. و" صائدو " المنافع المشبوهة، قياساً على أفلام " الكابوي " التي تستعمل مصطلح "صائد الجوائز " لوصف من يسعى وراء من هو مطلوب " WANTED "، ليلقي القبض عليه ويسلمه " للشريف "..
3- وإكمالاً للمفهوم، أورد عدداً من الصفات اللاأخلاقية والمظاهر " البرّاقة في بعضها " التي يستتر بها المنافقون والانتهازيون، والأقنعة التي يخفون حقيقتهم تحت غطائها: الكذب، التحايل، الرياء، التمسكن، التملق، الدجل، الادعاء بالغيرة على المصلحة العامة.. التعظيم والإشادة والإطراء والإطناب وتزيين تصرفات الرئيس لمجرد الممالأة.. الإفساد والفساد، استغلال الفرص، التدليس، الغش، والخداع والمراوغة.. النميمة والوشاية والوقيعة والوسوسة والدسيسة ضد الأخلاقيين والمجدين والتسلق على حسابهم.. المواقف الزئبقية غير الواضحة، والآراء المائعة غير المحددة التي تحتمل التأويل في عدة اتجاهات، فلا يُعرف غرضه الحقيقي الذي يتفنن في إخفائه، ولا تدري إذا كان معك أو ضدك!.
ثالثاً ـ مكان وجودهم
1- تجد المنافق والانتهازي في جميع القطاعات والمستويات.. في أي مجتمع أو تجمّع بشري، بدءاً من الأسرة.. لأن المواقع والمناصب والوظائف والأعمال متداخلة في الحياة عامة وفي الإدارة، إذ يندر أن ينفرد شخص ما بصفة واحدة.. كأن يكون رئيساً، أو مرؤوساً، أو معاوناً فقط.. وإنما هو يجمع في الغالب أكثر من صفة في مؤسسته.. ففي الأسرة نجد: الأجداد، والآباء، والأولاد، والأشقاء، والأحفاد.. وفي المجتمع والمؤسسات نجد: شخصاً رئيساً لفئة من المرؤوسين، ومرؤوساً لآخر، وزميلاً لآخرين..
2- على أن خطر النفاق والانتهازية، يستفحل عندما يشغلون المستويات العليا في المجتمع أو المؤسسات العامة والخاصة والمشتركة وغيرها..
3- ويشارك كثير من الرؤساء في هذه الخطيئة وفي تفاقمها.. إذ يستمرئون الإطراء والمديح والأساليب الثعلبية، وينزعجون من أصحاب الرأي الصادق الصريح.. فيُقرّبون إليهم تدريجياً، أمثال أولئك، ويبعدون هؤلاء!. فيسود المناخ المائع.. ويطفو المنافقون والانتهازيون على السطح، ويصبغون المؤسسة بلونهم " غير الثابت ".. ثم ينضم إلى " القافلة الفاسدة " عناصر جديدة من ذوي النفوس الضعيفة والشخصيات المهزوزة.. وينكمش الصالحون الصادقون ويبتعدون..
4- كما نجدهم كثيراً منهم بين المتعاملين مع المؤسسات العامة والخاصة والمشتركة وغيرها.. الذين يستعملون، هم ووسطاؤهم، شتى الأساليب والوسائل، لتمرير مصالحهم الشخصية غير المشروعة، بل وحتى المشروعة..
5- ولا أستبعد وجودهم بين الغرباء والأجانب المتعاملين أو الزائرين، حسب مصالحهم..
رابعاً ـ أساليب المنافقين الانتهازيين وأشباههم
وهي أصعب من الحصر.. وهي عموماً، طرق ووسائل، تتنافى مع السلوك المستقيم، ومجالها واسع.. ومنها:
1- التهاتف على المسؤول الجديد، وإبداء الإعجاب بتصرفاته، وتزيين أعماله وصفاته، وامتداحه باستمرار.. والتعقيب على أفعاله وأقواله بعبارات التأييد والإعجاب: نعم سيدي.. صح سيدي.. ما تفضلتم به هو الرأي الصائب!. مما يوصل الكثيرين إلى الغرور، والغرور قتّال يعمي البصر والبصيرة، ويصمّ الأُذنيْن عن سماع صدى الواقع، ويبعد المسؤول عن العمل الجماعي، ويغرقه في " الأنا "! والتفرّد..
2- محاصرة المسؤولين وعزلهم عن محيطهم العام، والانفراد بهم.. لكي لا يتعرفوا الأمور على حقيقتها، ولإبعادهم عن جماهير العاملين والمرؤوسين..
3- تزيين طرق الفساد والانحراف للمسؤولين وتيسيرها، وإغراؤهم بتجهيز المكاتب بالأثاث الفاخر وتبديله، ونثر " قشر الموز " لكي يتزحلق بها الرؤساء.. لجرّهم نحو أول خطوة بسيطة ظاهرياً، وتوريطهم بها.. ومن ثم تذكيرهم " تهديدهم " بها، وبالتالي، إغراقهم و" توحيلهم " في ارتكاب الأخطاء والانحرافات مستقبلاً!. بالقياس على الخطوة الأولى!.
4- السعي للوقيعة بين المسؤولين وبين الأخلاقيين والمجدين.. بالدس والنميمة والوشاية والتجريح.. وانتقاد أعمالهم " من لا يعمل لا يخطئ ".. وتصيّد أخطائهم وتضخيمها والتشهير بها.. للتسلق على أكتافهم!.
5- إخفاء الحقائق.. فهم ضد الصراحة والعلنية والشفافية، التي تكشف مآربهم وغاياتهم الرخيصة وأساليبهم الملتوية المبطنة.. فهم أساساً صيادون في الماء العكرة.. ولا يطبقون القول المأثور: صديقك من صدَقَك، لا من صدّقَك..
6- تبديل المواقف والأقنعة والأساليب، وتغيير اتجاه الولاء " التظاهري المنافق ".. نحو شخص المسؤول الجديد.. للاستمرار في تحصيل منافعهم المادية والسلطوية.. لأن المنافق والانتهازي لا يستمر على ولائه وإخلاصه الظاهري، إلا بمقدار استمرار انتفاعه، وسرعان ما يبدل ولاءه ويوجه اهتمامه إلى الشخص أو السلطة الجديدة التي تضمن له هذا الانتفاع أو تزيد فيه..
7- ومن المدهش، أنه في كثير من الحالات يأخذ المنافق والانتهازي موقفاً متناقضاً يدعو للسخرية، يتمثل في التزلف لمن هو أعلى منه.. والتعجرف والادعاء بالمثالية باتجاه من هو أدنى منه!.
8- وبرغم أن مثل هذه الأساليب مكشوفة ورائحتها تزكم الأنوف، فالمنافق والانتهازي لا يأبه كثيراً لذلك، ولا يهتم بالرأي العام في المجتمع أو المؤسسة.. ما دام قد حصل على رضى رئيسه الحالي، واستفاد من وجوده!.
9- 00000000
خامساً ـ صفوة القول
في ضوء ما تقدم، أعتقد أن القارئ العزيز يستطيع أن يدرك مدلول الحديثين الشريفين [ إن أخوف ما أخاف على أمتي، المنافقُ عليمُ اللسان. ]، و [ إذا أراد الله بالأمير خيراً, يسّر له بطانة " وزير " صدْق، إذا نسي ذكّرته، وإذا ذكر أعانته؛ وإذا أراد به غير ذلك، يسّر له بطانة " وزير " سوء، إذا نسي لم تُذكِّره، وإذا ذكر لم تُعِنه.].. وأن يفهم قول الشاعر: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ـ ويروغ منك كما يروغ الثعلب..
مما يوجب على كل صاحب منصب أو رب عمل، ومسؤول، وإداري، أن يتحرى الصادقين الصريحين الجريئين بين أعوانه ومرؤوسيه وأن يجعلهم في بطانته.. وأن يبعد عنه المنافقين والانتهازيين ومن شابههم، وأن لا يمنحهم الثقة.. وأن يهمشهم ويساءلهم إذا كان شرهم قد استفحل قبل مجيئه.. وبهذا يُبعد الإفساد والفساد عن شخصه ومؤسسته، ويضمن أيضاً لشخصه ومؤسسته السُمعة الحسنة والثقة والنجاح.. وإلاّ..
هذا، وأشير أخيراً إلى أن المنافق والانتهازي ومن شابههما، لا يُؤمن جانبهم.. وهم أخطر في آثارهم السلبية وإفسادهم من العدو والمعارض الذي يصرح عن مواقفه، بتصرفاته وسلوكه وأقواله.. فهؤلاء يمكن مواجهتهم واتخاذ الموقف المناسب والاحتياط منهم، بل ومحاورتهم.. أما أولئك فلا لون لهم، ويبدلون جلودهم كالأفعى والحرباء بحسب الظروف ومنافعهم.. وتصرفاتهم مزيّفة، و" مبطنة " أو مغطاة بزخارف وتزيينات تخفي الحقيقة ونواياهم.. مما يوجب الحذر منهم ودفع خطرهم وضررهم، بتجنبهم وإبعادهم عن مراكز الشورى واتخاذ القرار..
كما أن المنافق والانتهازي ومن شابههما، لن يفيد من ينخدع بمظاهره وأقنعته وينطلي عليه كلامه المعسول، في الضراء وفي أوقات الشدة والمواقف الصعبة.. ويستعجل الانسحاب من المعركة، وينهزم من المواجهة, أو يصبح متفرجاً في أحسن الأحوال.. إذ أن أخلاقه ونواياه لا تسمح بأن ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: الصديق عند الضيق.. مما يؤكد على الرؤساء والإداريين عدم الاغترار بأساليبهم والوقوع في فخاخهم والحذر منهم.. فهم " أدلاء سوء " إلى الإفساد والفساد..

أحمد عبد السلام دباس : ( كلنا شركاء ) 4/10/2005

ليست هناك تعليقات: