بيسر يستطيع المراقب أن يعاين، ضمن التهريج الذي تؤديه بعض القوى السياسية في لبنان ضد سورية، المنشأ الإقليمي النزعة لهذا الخطاب.
الضالعون في هذا التهريج ابتدؤوا به قبل جريمة اغتيال الحريري، وازدادوا ضراوة بعدها.
رسائلهم بوشرت منذ أن بدأ النقاش في الكونغرس حول «قانون» «!» محاسبة سورية، في قراءة فاسدة منهم لاتجاه الريح. هم خالوا أن واشنطن كلية القدرة. وأنها، بعد احتلال العراق، في الطريق الى دمشق ورسموا حساباتهم على هذا الأساس.
أحدهم نطق، في الأمس القريب، ومباشرة بعد دقائق معدودات على ذيوع نبأ اغتيال جبران تويني، بأن «عجلة تغيير النظام السوري دارت، ولن تتوقف»!.
وهذه لم تكن هفوة أو زلة لسان من «البيك»، بل خلاصة متخيل سياسي انعقد الرهان عليه، كما أسلفنا، منذ اختمار «قانون» «!» محاسبة سورية.
كان معقد الرهان أن ترتسم في أذهان الناس، محلياً وعربياً ودولياً، صورة نمطية لسورية ونظامها، طبق الأصل العراقي.
فكان هناك من أطنب في الحديث عن القمع، و... أخيراً عن المقابر الجماعية في لبنان، في محاولة بائسة للتنميط!.
وبسبب افتقار الرهط اللبناني الى الصدقية، طاشت سهام الإعلام «الناطق بالعربية» في تسويق التنميط. على نحو ما حاولته راغدة درغام، مراسلة أحد أوكار هذا الإعلام، في السؤال الذي وجهته الى ميليس، في مؤتمره الصحفي بُعيد تقريره الثاني الى مجلس الأمن، والذي اتضح من إجابة ميليس نفسه أن السؤال خارج السياق وليس بذي موضوع.
وهنا طرف الخيط الذي يقود المراقب الى استكشاف وجهة التغيير الذي قال «البيك» إن «عجلته دارت ولن تتوقف».
فالإعلام «الناطق بالعربية»، يسرد في تغطيته الدورية المتواترة لأخبار الشأن الجاري في لبنان، توقعات «مصادر عليمة» ومصادر دبلوماسية ولاسيما في باريس، ولندن وواشنطن، و«مصادر مطلعة»، واخرى «مقربة» من هذه الشخصية أو تلك، وعلى نحو يتضح معه، بعد التدقيق، أن هذه «التوقعات» إنما هي رغائب قوى إقليمية لبنانية معينة، يراد تسويقها بوصفها «سياسة» متفقاً عليها في عواصم الغرب، جوهرها اقتراب موعد الإجهاز على سورية: النظام والموقع والمكانة والدور.
وهنا يمكن أن ننصب الميزان الذي تقاس به رغائب الاقليميين الانعزاليين اللبنانيين، الجاري التعبير عنهافي خطاب متفاوت النبرة ومتصاعد، مستقوياً بالأسباب الموجبة لسن «قانون» «!» محاسبة سورية، قبل القرار 1559، وقبل التمديد للرئيس اميل لحود، وقبل جريمة اغتيال الحريري، وبعده.
والميزان هنا هو أداة استقراء التوازي والتزامن والتطابق بين الهدف الفعلي لـ «قانون» «!» محاسبة سورية، وبين حملة التحريض التي يباشرها الاقليميون على الساحة اللبنانية، ضد سورية.
فالولايات المتحدة لا تكتم أنها تبتغي إعادة صياغة الأوضاع في الوطن العربي، طبقاً لاحتياجات «مشروع الشرق الأوسط الكبير» وفيها تمكين «اسرائيل» من خرق نهائي ومستديم لأزمة عزلتها في المحيط العربي والإسلامي.
وفي مبتغى واشنطن هذا يكمن السر في انتعاش الحراك الاقليمي في لبنان للعمل على خط «الشرق الأوسط الكبير» من باب ملاقاة المشروع في منتصف الطريق بالنيل من سورية: الموقع والمكانة والدور، وطمعاً في اصطياد الجوائز بعد النجاح في إزالة نهج الممانعة العربية الذي يقع جذره في دمشق؛ جوائز شيوع حالة التطبيع وتفاعل «الخبرة» الاسرائيلية مع الرساميل والأيدي العاملة العربية الوافرة و... الرخيصة «!!!».
فهل لهذا الحراك الاقليمي في لبنان، والموصول بنقيصة الاقليمية الكامنة في أصل تمويل الإعلام «الناطق بالعربية» العامل على تسويقها، من مستقبل؟
الإجابة تقتضي التدقيق في أهلية القوى الاقليمية في لبنان وخارجه للنهوض بمهمة كهذه.
وأول ما يسترعي الانتباه في هذا الصدد النكوص المتوالي لحالات التهييج المسعور ضد سورية، وصيرورته الى التراخي والترهل، بحكم الافتقار الى الصدقية التي من شأنها أن تشد مفاصيله، وبحكم البؤس والصغار اللذين تتسم بهما حسابات القوى الاقليمية الفاقدة للسمت الذي من شأنه أن يوفر لها قاعدة شعبية يعتدّ بها.
والشاهد أن الاقليمية على الساحة اللبنانية انتظمت في «لقاء البريستول» تحت ذريعة أن التمديد للرئيس اميل لحود، الذي تم بأغلبية 96 مقابل 29، في المجلس النيابي، هو تمديد «غير دستوري»!.
وفي إطار «لقاء البريستول» قيل كلام مستفيض، مداورة ومباشرة، للانقضاض على العقيدة الوطنية التي صاغها الرئيس إميل لحود، في خطاب القسم الدستوري 1998، ومفادها: «سورية هي الصديق، و«اسرائيل» هي العدو».
والذي حدث ان «معارضة البريستول» تحللت الى عواملها الأولية، فصارت «معارضات..» لأسباب شتى، أبرزها استبداد الحسابات الصغيرة برؤوس أطرافها، تبعاً للافتقار الى السمت الوطني الجامع، فصار ملحوظاً التسارع الى التلاشي.
هنا يمكن تعيين الوظيفة الإجرائية لجريمة اغتيال الحريري في إعادة شد المفاصل المتراخية لـ «معارضات البريستول» فالجريمة، بما أحاط بها من غموض، وبما تلاها من إعادة شحن للنفوس وإثارة للاحتقان، تم توظيفها بصخب إعلامي مبرمج لإحياء الزخم الذي تأسست عليه «معارضات البريستول»، والذي تبلور في صيغة وارثة عنوانها هذه المرة« لقاء 14أذار»
وهنا منشأ المشروعية في التساؤل عن المستفيد حقاً من جريمة اغتيال الحريري على الصعيد المحلي اللبناني، في إطار «سياسة الفوضى الخلاقة» المعلن اعتمادها في واشنطن لإعادة صياغة «الشرق الأوسط الكبير».
والذي حدث أيضاً أن لقاء 14 آذار» أصيب بالتآكل، وبالتشقق، ومشى في طريق الاهتلاك للأسباب نفسها التي سارت بها صيغة «معارضة البريستول»، الى التحلل فالتلاشي.
وهنا أيضاً المشروعية في التساؤل عن الجهة المستفيدة من اغتيال جبران تويني، التي أرادت أن تستعيد اللحمة الى «معارضات البريستول»، وان توقف تدحرج «لقاء 14 آذار» في العد التنازلي نحو تراخي المفاصل والتحلل الى عناصره الأولية التي لا جامع وطنياً لها.
وعند هذا الحد في سيرورة الحراك الاقليمي اللبناني، ترتسم معالم أزمة هذا الحراك، وبؤسه وانسداد أفقه.
فالتأهب المسبق القبْلي لاتهام سورية بالمسؤولية عن جرائم القتل والاغتيال في لبنان جميعها، تعتوره ثغرات تقوض منطقية خطابه السياسي.
أبرز هذه الثغرات كون الاقليميين، إبان سرد قائمة هذه الجرائم، يتعمدون شطب الإشارة الى جرائم اغتيال ايلي حبيقة، وجهاد أحمد جبريل وغالب العوالي، والى محاولة اغتيال حسين عباس ومحمد يزبك، لسبب جوهري هو الإجماع المحلي والعربي والدولي على أن «اسرائيل» هي الآثمة في اقتراف هذه الجرائم!.
والبؤس هنا ينصرف الى غض الطرف عن الحضور الاسرائيلي النشط في تخليق الأزمات للبنان وسورية والعرب ككل، ضمن «سياسة الفوضى الخلاقة».
وقد افتضح هذا البؤس في مقابلة مطولة لجيزال خوري مع «البيك»، بسؤالها: لماذا تزور السيد حسن نصر الله في مقر إقامته ولا يزورك هو في المختارة؟! أجاب: «لأسباب أمنية»، فأردفت: «وممن يخاف السيد؟» ، أجاب: «من «اسرائيل»!.
وأقفل الحوار عند هذا الحد!! دون أن يكلف المسؤول والسائلة نفسيهما مشقة طرح الأسئلة الضرورية المفترضة لاستقامة الحوار، مثل: حجم الحضور الاسرائيلي في لبنان ومستويات وألوانه السياسية المؤسسة لتعبيراته الإعلامية؟! كم هو.. وكيف يتحرك؟ وعلى الرغم من هذه الثغرة في المبنى التحريضي ضد سورية لدى الاقليميين اللبنانيين، ولدى «البيك» خاصة عبر التغييب العمد للعامل الاسرائيلي، فقد تسلق «البيك» في الأمس شجرة عالية في خطابه السياسي المثقل بهرطقة الحسابات الصغيرة، إذ طلب الحماية الأمنية من السيد حسن نصر الله!.
مع أن طلب حماية أمنية شخصية بدَرَ عن «البيك» في مرتين مشهودتين سابقتين في 1982 وفي 1986، فإن المشكلة في الطلب الحالي، هي في حقل الريب والشكوك الذي يزرعه الآن، فيما لو امتدت اليد التي اغتالت ايلي حبيقة وغالب العوالي ورفيق الحريري وجبران تويني، الى شخصه، لاستئناف السعار ضد سورية، ولتوريط حزب الله في التجاذبات الأمنية الداخلية!.
وربما كان مفيداً أن نشير الى الطلبين السابقين بالحماية الأمنية.
في 17/5/2001 أذيعت على الهواء حلقة إعلامية بعنوان: «حصار بيروت»، شارك فيها «البيك» والراحل جورج حاوي وأحمد جبريل وكريم بقرادوني وشفيق الوزان، وآخرون.
وفي مناخ الحصار، يروي «البيك» : «كانت قد شكلت في بيروت هيئة الإنقاذ الوطني.
وكان الالحاح من هؤلاء: عرفات، علي الشاعر، مروان حمادة، الحركة الوطنية، أن التحق بهيئة الانقاذ الوطني. أرسلت لهم: طيب جاهز، لكن أنقذوني من المختارة، من الحصار. وهكذا كان، أتى مروان «حمادة» في.. لست أذكر اليوم بالتحديد. لكنه كان يوماً شهيراً، لأنه حمل في طياته ملابسات تاريخية كبيرة. في هذا اليوم أتى شيمون بيريز الى المختارة. جلسنا مدة نصف ساعة. قلت له: لماذا هذا.. يعني هذا الاجتياح. قال: نحن «هنا» لمحاربة الإرهاب. جاوبته: ليس بهذه الطريقة تحاربون الإرهاب».
أما طلب الحماية الثاني، فقد رواه الراحل جورج حاوي لقناة «الجزيرة» في 2003 ضمن برنامج موسع بعنوان «ملفات الحرب الأهلية اللبنانية»، في الحلقة التي تناولت «حرب الجبل» 1986.
قال حاوي: كنت في دمشق، وتلقيت اتصالاً من وليد جنبلاط يقول فيه: اتصل بحكمت الشهابي، وأبلغه أن الجبل يسقط.
فاتصلت «وقد لاحظ مشاهدو الحلقة كيف أن حاوي قلّد الصوت الجهوري للعماد الشهابي»: «قل لوليد بيك أن الجبل لن يسقط». أضاف حاوي: وعدت الى لبنان لأرى أن الجبل لم يسقط».
من قراءة الأحداث المتعاقبة نتبيّن أن الحراك الاقليمي اللبناني، بطيوفه السياسية المتعددة، وبتناقضات خطابه المسبق التصميم على النيل من سورية: المكانة والموقع والدور، إنما هو تطاول على القامة المديدة لدمشق، ومحاولة لتعطيل هذا الدور، حتى وإن كانت هذه المحاولة عامرة بالجحود ونكران جميل إنقاذ اللبنانيين من شرور بعضهم بعضاً، في خضم تضحيات الدور السوري في لبنان، الذي يتناسى فيه الاقليميون ان سورية بادرت لإنقاذهم حين تفرج آخرون، واحتفظت بمسافة متساوية من الجميع، ولا تزال، حفظاً للبنان؛ الوطن الواحد الحر السيد المستقل عن العدو الاسرائيلي، الذي يتغافلون عنه هذه الأيام.
علي الصيوان - تشرين
siwan@scs-net.org
الأحد، ديسمبر ١٨، ٢٠٠٥
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق