د.خلف الجراد : تشرين 2/10/2005
الفساد نقيض الصلاح؛ يعني «الخلل والاضطراب والتلف»، كما أنه يؤدي إلى إلحاق الضرر بالأفراد والجماعات والمجتمع برمته، وهو ناشئ عن سلوك الإنسان في إطار بيئة محدّدة.
وقد عرّف «تقرير التنمية» الصادر عن البنك الدولي (في عام 1997) الفساد بأنه «سوء استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب ومنافع خاصة». وفي استبيان شمل حوالى مئة وخمسين مسؤولاً كبيراً من ستين دولة نامية، أكد هؤلاء أن الفساد هو أكبر معوّق للإصلاح والتنمية.
في العقد الأخير من السنوات تضاعف الحديث على الفساد بشكل لافت وغير مسبوق، إضافة إلى ظهور مئات الدراسات والاحصائيات الدولية المخصصة لهذه الظاهرة المجتمعية المعقدة، وعشرات الندوات والملتقيات الإقليمية والعالمية، التي أظهرت مدى خطورة الفساد ومنعكساته المدمّرة على تطور المجتمعات وتنميتها وعلى عملية الإصلاح ومسيرته المأمولة. ويشار في هذا السياق إلى قيام عدد من الهيئات والمنظمات والمعاهدات الدولية لمكافحة الفساد، وأبرزها «منظمة الشفافية الدولية» و«معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» و«معاهدة الاتحاد الإفريقي الإقليمية لمكافحة الفساد» و«معاهدة منظمة الدول الأميركية لمكافحة الفساد».
كما يلفت الانتباه تنامي المقالات والدراسات المتصلة بموضوع الفساد والتنظير لمكافحته في وسائل الإعلام المحلية، ولاسيما عشية المؤتمر القطري العاشر للحزب (في حزيران 2005)، والذي شهد بدوره مناقشات وحوارات مستفيضة لهذه الظاهرة المقلقة، مع جملة اقتراحات وتوصيات وتوجهات، يُنتظر أن تأخذ طريقها إلى الدرس والتمحيص، وأن تجد الآليات الفعّالة والواقعية للتنفيذ. إذ ان هناك إرادة سياسية قوية وحاسمة لمحاربة الفساد بصورة منتظمة ودائمة ومؤسسّية، لا تستثني أية جهة أو سلطة أو شخصية عامّة، لكن ليس على شكل «حملة» موسمية أو إعلامية طارئة أو مؤقتة، تستهدف أشخاصاً معينين أو توجه «رسائل» داخلية أو خارجية. فمعالجة هذه الظاهرة تقتضي البحث المعمّق والاستفادة من تجارب الدول والمجتمعات التي نجحت في هذا المجال من جهة، كما تتطلب الشمولية والحرص على الأخذ بالأدلة الدقيقة والقرائن القاطعة الدامغة من جهة أخرى، مشيرين في الوقت نفسه إلى حساسية هذا الموضوع وخطورة التسرّع في إطلاق الأحكام والاتهامات بصورة جزافية، وكذلك البطء والتباطؤ في اقتحام المشكلة والتردّد في المعالجة، لأنّ الفاسدين والمفسدين لن يرتدعوا من أنفسهم، و سيستغلون الوقت لتهريب ما نهبوه واستولوا عليه، وسيجدون عشرات الطرق والحيل التي توفّر لهم التبرئة أو استثمار المسروق تحت أسماء وعناوين وشراكات وأقنعة كثيرة.
وقد يطرح بعض متقني فنون التبرير والتسويغ والإرجاء مقولة ان مشكلة الفساد منتشرة في كل دول ومجتمعات الدنيا، وأننا لسنا وحدنا في هذا المجال، وبالتالي لا إمكانية واقعية لمكافحته أو للحدّ منه، خصوصاً أنه تغلغل (بحسب مزاعمهم) في كل أنحاء المجتمع وثناياه ومكوناته.
وقد ينبري آخرون من حسني النيات والمقاصد للقول بأن التصدي للفساد مسألة شائكة، وأن فتحها سيؤثر على مجيء الاستثمارات والمستثمرين وعلى سمعة البلد وإدارته وقضائه، وأن هناك موضوعات وقضايا لها الأولوية وهي أكبر وأهم من مسألة الفساد في الوقت الراهن، وفي مقدمتها التهديدات الخارجية، التي تتطلب حشد الطاقات لمواجهتها وعدم إحداث خلل وشروخ في أبنية الدولة والمجتمع والمؤسسات القائمة.. وغير ذلك من الاعتبارات والتحسّبات. في حين أن الحقيقة المؤكدة تتمثل بأن الهجمة الخارجية والتهديدات والاعتداءات تتعرض لها سورية منذ أزمنة طويلة، ونحن نعيشها واقعاً حيّاً من أربعينيات القرن الماضي إلى اليوم دون توقف؛ تهدأ فترة بسيطة لتعاود الاشتداد إلى حدّ العدوان العسكري المباشر في فترات أخرى (منذ إقامة الكيان الصهيوني العنصري في عام 1948)، لكنها لم تنحسر يوماً أو تتوقف بصورة نهائية. فموقع سورية الجيو ـ استراتيجي وإرثها الحضاري ودورها العربي والإقليمي، ووعي شعبها، ومواقفها القومية، وتمسّكها بعروبتها والهويّة والكرامة، ورفضها المطلق للخضوع للأجنبي والغزاة بمختلف أسمائهم وراياتهم وأهدافهم.. كلّها عوامل مثيرة لجنون الم ستعمرين، وغضبهم وأحقادهم على سورية المعنى والرمز والموقع والموقف والدور. وربما لا يدرك «الغزاة الجدد» أن أية قيادة سياسية سورية وطنية وقومية ستقف المواقف داتها، وأن خيارها الأساسي يرتكز على الممانعة بكل أشكالها، ولهذا فإن من تحصيل الحاصل أن تتعرض لألوان مختلفة من التهديدات والاستفزازات والضغوط. لكن ذلك لايدفعنا ولن يدفعنا إلى الخوف والتردد والجمود وعدم متابعة خطط التنمية القريبة والمتوسطة المدى والبعيدة آخذين في الوقت نفسه الاحتمالات كافة وفي مقدمتها المحاولات الاميركية لحصار بلدنا و«عزلنا» (تبعاً لإعلانات بوش وإدارته) وجعلنا نجلس مشلولي الإرادة و الفعل والحركة وهو امر لن يحصل مطلقاً لأن سورية تملك من الإرادة والشعب والحق والاوراق والخبرة والحكمة مايؤهلها لرفض الانصياع والتخلي عن هويتها وقيمها وحقوقها وكرامتها. ولديها مئات القنوات السياسية والدبلوماسية والعلاقات القوية مع جميع دول العالم تقريباً.
ومادمنا نتحدث في موضوع الفساد فإن من المفيد الإشارة إلى أن الفئة الفاسدة
هي الحلقة الاكثر ضعفاً وهشاشة في النسيج الوطني، والأكثر استعدادا للتواصل و«التفاهم» مع القوى الخارجية لأن مصالح هذه الفئة تتلاقى حكماً وتتقاطع مع الشركات متعددة الجنسيات وهمّها الرئيس ينحصر في تعظيم نهبها وتربحها بصرف النظر عن تخريب مرتكزات التنمية والقيم الاجتماعية.
ولهذا نجد أن الفاسدين هم المروجون «لثقافة الهزيمة والتطبيع» المنتقدون بعنف لثقافة المقاومة ولممانعة، الداعون ليل نهار «لفتح» الأسواق والبلاد للشركات العالمية، الذين لا تهمهم الصناعة الوطنية ولا تطويرها ولا أحوال العباد المعيشية بل ان «نضالهم» يتمحور حول كيف يمكن ان يكونوا وكلاء او أجراء لتلك الشركات القائدة للعولمة والأمركة و «مشروع الشرط الاوسط الجديد الكبير» الخاص بالهيمنة الاسرائيلية ـ الأميركية وتفتيت دول المنطقة وتحطيم الجسد العربي وتمزيقة إلى كيانات طائفية، مذهبية، أقوامية هزيلة.
المسؤول الفاسد، والإداري المتردي وجدانيا وأخلاقيا، والسياسي المنافق المتلون، والقاضي الذي لايحكم بالعدل بين الناس، والمثقف داعية الاستسلام واليأس والانسلاخ عن أمته وتراثها وهويتها، والصحفي الذي يستغل قلمه ومكانته وسلطة الكلمة ليبتز ابناء وطنه، والأستاذ الجامعي الذي يبيع الأسئلة والدرجات، والطبيب غير الملتزم بـ «قسم ابقراط» ويشغله جميع الأموال لا الحفاظ على الارواح .. كل هؤلاء وأمثالهم يشكلون الورم الخبيث والفيروسات الخطيرة المدمرة لحيوية الجسد المجتمعي.
ومن هنا فقد لا نكون مبالغين إذا ما اعتقدنا بأن المعركة ضد الفساد هي جزء لا يتجزأ من معركة الاصلاح والتحديث والتنمية الشاملة المطلوبة وإذا كان ثمة من يشككون ويوردون عشرات القصص الحقيقية أو المختلقة للبرهان على تفشي الفساد و«تلوث معظم الناس بمستنقعه» الآسن، فإنه بمقابل أولئك الفاسدين يوجد ملايين الشرفاء سواء في مفاصل الدولة ومؤسساتها او في مختلف طبقات وشرائح المجتمع وقطاعاته الانتاجية والخدمية والثقافية والإعلامية والسياسية فالأيادي النظيفة هي الكثرة الكاثرة والاغلبية الصامدة ويمكن التأكد من هذا الامر في اية لحظة من خلال تطبيق المعايير والأسس الموضوعية الدقيقة المستندة الى النزاهة والكفاءة والسمعة الشخصية الجيدة والاستعداد لتطوير القدرات العلمية والمهنية والادارية الذاتية عبر الانخراط في برامج تأهيلية جدية ومكثفة.. وعندئذ سنجد أن الشرفاء الغيورين والمخلصين للوطن وقضاياه أكثر مما يبدو على السطح وأن البلاد غنية بهذه الثروة العظيمة المتجددة، وغير القابلة للبيع والفساد والإفساد او النضوب والنفاد.
الأحد، أكتوبر ٠٢، ٢٠٠٥
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق