لا لا لا تحمل سلاحاً و تتلفت من حولك فخصمك لن يباغتك من أية جهة خارجية ، لا تنظر في المرآة نعم أعرف أنك تعرف هذا الشخص فهو ربما أفضل من عرفت حتى الآن، خصمك في داخلك و لكن لا تبتلع سكيناً أو سماً فنحن لا نريدك أن تقتل هذا الخصم بل نريدك فقط أن تهزمه..
هنالك مقولة جميلة أؤمن بها إلى حدٍ كبير تقول : " لا يمكن لأحد أن يشعرك بالدونية بدون موافقتك " و في اللغة العربية نقول ذ َلَ الرجل ( بفتح الذال) و لا نقول ذُل المرء ( بضم الذال) و يمكن أن يُهان المرء بفعل خارجي و لكن لا يمكن أن يُذل بفعل خارجي فالذل فعل ذاتي يحصل من الداخل و عليه فإننا نحن السوريون في نشيدنا الوطني نقول " أبت أن تَذل النفوسُ الكرام" بفتح التاء.
فالهزيمة الداخلية هي قرار ذاتي و علينا أن نعي ذلك، نعم الإنسان صنيعة بيئته و مجتمعه على اختلاف توجهاته، و الأصل في حل أية مشكلة أن نتوجه للسبب و ليس إلى النتيجة و لكن في هذه الحالة السبب معروف و لا يمكن تغييره لدى أي إنسان في لحظة ما من عمره بمعنى أن الإنسان عندما يبدأ بوعي ذاته يكون أمام خيارين- و هنا يكمن قراره - إما أن يبدأ بالتغيير الواعي لأن ( تركيبته ) الحالية ليست قدراً محتوماً و إما أن يتغير بحكم الزمن و الظروف و الأحداث .. و هذا تغير طبيعي و لكن غير واعي، أي أنه لا إرادي.
ما علاقة ذلك كله بوضعنا نحن السوريون؟؟
كثرت الأحاديث و المحاورات و المداولات و الدراسات و القرارات ... عن الوضع في سورية و الفساد و الإصلاح و التطوير و.. و قد تم تشخيص المشاكل (المعروفة لنا أصلاً ) و أيضأً تناولت بعض هذه المداولات الحلول الممكنة و أقلها تناول آليات للعمل و إن كان معظم من أدلى بدلوه من غير أصحاب القرار.
من قبل هذه المرحلة يجري الحديث - في سورية وغيرها - عن بناء الإنسان و المقصود بهذا البناء بحسب الطروحات و التوجهات ( النظرية ) هو البناء المعرفي و الفني في تخصصات علمية أو عملية و غالباً ماً يهمل الجانب الذاتي من هذا البناء و الذي تهتم به علوم التنمية البشرية اليوم، بل و يتقدم على البناء المعرفي للإنسان بدرجات، فمن المعروف أن اكتساب المهارات المعرفية يتم في المدارس و الجامعات و الدورات و غيرها من مصادر العلوم، و لكن ما هي المهارات الذاتية التي يجب اكتسابها أو صناعتها أو زراعتها ليكون الفرد قادراً على العطاء؟ إنها صفات و قيم مثل المبادرة و التحفز و الكرم و الشجاعة و الغيرية و الإيثار و الولاء و المراقبة الذاتية والأمانة و الإخلاص و استثمار الوقت و الحرص على التطور و التعلم و الإبداع و التفكير الإيجابي ... و لأسأل سؤالاً : إذا افترضنا أن شخصاً ما في بيئة معينة لا تزرع هذه القيم و على فرض أن هذا الشخص استطاع بطريقة ما أن يدرس و يتخرج مهندس مثلاً فكيف نتوقع أن يكون مستوى أداؤه كمهندس؟؟ و على سبيل المثال أيضاً إذا أردنا أن نوظف في مكان ما محاسباً يتمتع بالأمانة و هما صفتان مهنية و ذاتية فهل من الأسهل أن أجد محاسباً ( غير أمين ) و أعلمه الأمانة؟ أم أجد شخصاً أميناً لا يعرف المحاسبة و أعلمه المحاسبة؟؟.
يجب أن نقر أن هنالك تغييرات إيجابية بدأت بالفعل في سورية و لن أناقش سرعتها و آليتها و أشخاصها و أنا أريد مثل معظم أهل البلد أن أستيقظ ذات يوم و أرى التغيير شاملاً عاماً و البلاد تنعم برخاء و قد تخلصت من الفساد و المفسدين و طبعاً هذا لن يحدث لأنه ليس هنالك خط حدي بين الأسود و الأبيض بل لا بد من المرور عبر اللون الرمادي، و إذا كان هذا التغيير يعنينا و قد تم تشخيص الخلل و بسهولة لأنه بادٍ للعيان، ألم يأنِِ الأوان لننتقل جميعنا إلى مرحلة العمل الخلاق و المبادرة كل من موقعه؟ لقد عانى المواطن في سورية ما عانى من إحباطات و انتكاسات و قهر و هزائم داخلية و هي الأشد مرارة، لقد أنتجنا في سورية إنساناً مهزوماً من الداخل، مهزوماً أمام السلطة و أمام رئيسه في العمل و أمام رغيف الخبز و أمام المواصلات و أمام العدالة و أمام حياته اليومية بل و حتى أمام أهل بيته و أولاده و الأقسى أنه مهزوم أمام نفسه، نعم فإنساننا هُزم أمام نفسه فحمل هذه الهزيمة في أعماقه بكل ما تحوي من قهر و قمع و مهانة و تقوقع و يأس و انكسار و بات يورثها لمن بعده على أنها الأصل في الحياة و أنها أمراً واقعاً أو قدراً محتوماً، أما آن الأوان لنخرج من دائرة الظلمة و الملامة و التقوقع و القهر و التذمر و الانكفاء على الذات إلى دائرة الفعل الإيجابي السلمي الواعي الهادف المنتظم؟؟ أما آن الأوان؟؟؟
أنا لا أعفي أحداً و لا أحاسب أحداً و أصلاً لا يحق لي ذلك، كما أنني لا أدافع عن أحد، و لكني أتكلم كمواطن يؤلمه أن تستمر حالة التشرذم مع الذات و تبدد الطاقات و اجترار الأسى، إننا في سورية معنيون جميعاً ( حكومة و شعباً، كباراً و صغاراً، رجالاً و نساءً.. ) بالتغيير و العنصر الأهم في هذا التغيير هو الإنسان بكل ما يعنيه و ما يحويه من خبرات و قدرات و قيم و أصر أن بناء القيم الذاتية و زرعها سيكون المنطلق، و قد سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه في الحديث الصحيح أن يمنحه القيم الذاتية من علو الهمة و الكرم و التفاؤل و الإيجابية و الشجاعة و الإيثار و استعاذ من القهر و القمع بحديثه المعروف : " اللهم إني أعوذ بك من الهم و الحزن و أعوذ بك من العجز و الكسل و أعوذ بك من الجبن و البخل و من غلبة الدين و قهر الرجال...". لنغير طريقة تفكيرنا نحو أنفسنا أولاً، لنكتشف عوالمنا الداخلية فكل منا لديه من الإمكانيات ما قد يفاجئه هو ذاته، لننظر بإيجابية إلى كل ما حولنا لنمنح أنفسنا و غيرنا فرصة جديدة مختلفة و يحضرني مشهد سيدنا عيسى عليه السلام حين مر و أصحابه على جيفة فتقزز الأصحاب و نعتوها بصفات سيئة هي فيها فقال عليه السلام : انظروا ما أشد بياض أسنانها!!
إن التغيير لن يأتي بل علينا أن نصنعه أو نذهب إليه ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ربما وعى الغرب ( و الشرق أيضاً ) حقيقة أهمية بناء الإنسان من الداخل فتقدموا علينا مع أن التاريخ يذكر لنا أن صلاح الدين الأيوبي حين أخذ على عاتقه مهمة محاربة الصليبين لم يسعَ إلى إعداد الجيوش أولاً بل سعى إلى بناء الإنسان و تحصينه من الداخل!! و نحن لم يسبقنا - العالم الذي يدعي الحضارة اليوم - لم يسبقنا بكثرة و تنوع و تقدم العلوم – على أهميتها – بل سبقنا بالالتزام و الإيمان بالإنسان من خلال التركيز عليه لأنه سوف يحمل على عاتقه مسؤولية البناء المادي و نحن العرب و المسلمون و المسيحيون حملنا الله سبحانه و تعالى مسؤولية بناء الإنسان فتخلينا عن الرسالة و المسؤولية فتهنا...
المسلمون لم يفتحوا العالم بكثرة العدد و العدة بل فتحوها بالإيمان المتمكن من الصدور و القلوب و العقول، يمكن لقائد أن يحارب مع جند يؤمنون بربهم و بأنفسهم و بسلاح عادي، و لا يمكن أن يحارب بجند مدججين خائرين من الداخل قرروا الانهزام قبل بدء المعركة.
نحن السوريون في مركب واحد شئنا أم أبينا، لنكبر بأنفسنا بقيمنا بأخلاقنا، لنثق بربنا بأنفسنا بشعبنا بإمكاناتنا لنتحرك و نبادر و لا نكتفي بالمراقبة من خلف الستار أو من أمامه، لقد تحرك السوريون في حملة رائعة لتنظيف الشاطئ السوري رائدهم حب الوطن، و من منا لا يحب الوطن؟؟
في حالة النظافة العامة مثلاً قد أقف كمواطن في ثلاثة مواقف رئيسية : إما أن أرمي الأوساخ في الشارع أو لا أرميها و قد أساهم في التنظيف.. فأين أنت من ذاك؟ و عليها فقس..
هبوا أيها السوريون إنها حرب سلاحها الإرادة أعلنوها على أنفسكم التي بين جنباتكم و اهزموها، اهزموا العجز و الكسل و الترهل، اهزموا اللوم و السلبية و التفرج، اكتشفوا مكامن القوة الموجودة افتحوا بوابات العمل و الأمل و التفاؤل و الآفاق الرحبة جدوا الحلول و اسعوا إليها أو اصنعوها، ثقوا بالله و بأنفسكم فسورية غاليتنا تنتظر منا الكثير الكثير، دعونا نحمل الأجيال تركة غير ما حُملنا و كلنا معنيون ، إنها الحرب.
د. عماد
السبت، أغسطس ٢٧، ٢٠٠٥
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
يتغير الناس بالإرادة الداخلية, لكن قبل المطالبة بالتغير يجب توعيتهم ما هو التغير نحو الصحيح, و هل هناك تغير صحيح واحد أم تعدد الحلول و الخيارات لهدف واحد؟
أعتقد أن الأمر أعقد من مجرد رمي الأوساخ في القمامة. الشعب مطالب بوعي عام في كل المجالات, و لكن هل نلقنه بما سيفعل خطوة خطوة؟ أم نترك له المجال ليتغير كما يراه هو مناسباً؟
أم نخلط بين الحلين بحذر؟
إرسال تعليق