الأحد، سبتمبر ٢٥، ٢٠٠٥

الهروب من غربة..إلى غربة أخرى..!

أكاد أقول إن الأغلبية العظمى من العاملين في الدولة لا ترفض ترك عملها الحكومي والهجرة الى عمل خاص داخل البلد أو خارجه, ولا نستثني من ذلك سوى بعض أصحاب المناصب!.. الجميع يشكو!.
فخلال كل حواراتي مع زملاء إعلاميين وغير إعلاميين لم أجد واحدا منهم يرفض الهجرة الى عمل آخر غير حكومي..! حتى أولئك الذين يحققون دخلا مرتفعا ولهم امتيازات يحسدهم عليها الكثيرون من زملائهم!!. سواء أكان هذا العمل غير الحكومي داخل البلد, أم خارجه!
لم يرفض إعلامي واحد عرضا قدم له, حتى قبل أن يعرف مقدار ما سيحصل عليه من راتب أو أجر, لذلك- مثلا - تتسرب كوادر التلفزيون العربي السوري, ولاسيما مذيعاته الناجحات الى محطات عربية مختلفة!.
وأذكر هنا أنه قبل نحو عام حصلت عملية خداع.. أو ربما يمكن وصفها بعملية نصب معروفة مرت دون أن يتحدث عنها أحد, عندما ادعى شخص انه يمثل محطة فضائية خليجية سيتم افتتاحها في دبي باسم (إفرست) وافتتحت موقعا لها على الانترنت, وبدأت لجنة تقبل الطلبات وتجري المقابلات, وقد تقدم للعمل في تلك المحطة الوهمية العشرات من العاملين في الأقسام المختلفة للتلفزيون السوري, قبل أن يختفي هذا الشخص, ويختفي موقع الانترنت, وتتبخر أحلام العشرات..
فهل سألت القيادات الإعلامية المعنية عندنا لماذا محاولة الهروب هذه؟!.. ولا أقول الهجرة, لأنها هروب بالفعل!..
الآن هناك محطات تلفزيونية جديدة سيتم افتتاحها وستكون لسوريين, ويقال إن في الأفق نحو خمس محطات فضائية جديدة قادمة.. وهذه المحطات ستأخذ كوادرها غالبا من التلفزيون السوري.
فهل بدأ أحد في التلفزيون يسأل نفسه عن مصير هذا التلفزيون بعد رحيل العديد من كوادره.؟ وهل فكر أحد كيف يمكن المحافظة على هذه الكوادر.. محررين ومعدين ومذيعين وفنيين؟!.. والمحطات الخاصة ستختار الأفضل بالتأكيد..! أم أنه سيتم منعهم من العمل خارجه بالأمر العسكري؟!, إلا اذا رأت هذه القيادات الإعلامية انها ستكون فرصة للتخلص من كوادر غير مرغوب بها لأسباب شتى, وفرصة للتعويض عنها بمحاسيب وأقرباء وأصحاب واسطات!.
والإعلام ليس القطاع الوحيد الذي تسعى كوادره للرحيل منه, وقد سبق لإحدى الصحف المحلية الخاصة أن نشرت بتاريخ 6/7/5002 تحقيقا تحت عنوان لافت هو( لماذا تتخلى الدولة عن كوادرها؟)..) وفيه يعترف السيد وزير الإسكان والتعمير بنزيف المهندسين والفنيين من شركة الدراسات كمثال! ويطلب التريث قبل منح أي موافقات جديدة على طلبات الاستيداع أو الاستقالة, وقد امتنع السيد الوزير في حينه عن اجراء حوار حول هذا الموضوع رغم أهميته..
لذلك نكرر التساؤل ذاته:
- هل سأل أحد: ما الذي يدفع مهندسا يعمل في شركة دراسات فنية ذات سمعة جيدة لترك عمله؟!.
- ودائما نسمع عن هروب الكفاءات من القطاع العام الى الخاص!.. وهنا نسأل نحن:
- هل الأجر فقط - رغم أهميته - هو العامل الحاسم في اتخاد قرار الرحيل.. أو الهروب من الحكومي الى الخاص..؟
- أم أن هناك الكثير من الأسباب الأخرى التي تدفع اعلاميا أو مهندسا أو استاذا جامعيا أو فنيا لترك عمله الرسمي الى العمل في القطاع الخاص؟!.
وفي معرض الإجابة على هذه التساؤلات لا أعتقد أننا بحاجة الى كبير عناء للقول إن الأسباب الحقيقية التي تدفع كوادرنا وعقولنا وخبراتنا وفنيينا الى عمل آخر, سواء خارج الوطن أو داخله, تتمحور حول أمرين أساسيين هما:
1- الإحباط.
2- التهميش..
ومن ثم يأتي الأجر...! والمحسوبيات!.. والشللية.. والتعامل حسب معايير غير صحيحة.. الخ...
فلا أحد راضيا في عمله؟.. أو عن عمله؟.. والشكاوى من الإحباط والتهميش والإقصاء وعدم كفاية الأجر.. وعدم احترام الخبرات والكفاءات, هذه الشكاوى نسمعها أينما ذهبنا, في مؤسسة إعلامية, أو إنتاجية, أو خدمية..!
لقد جاء في تبرير نزيف المهندسين المنشور في التحقيق الصحفي المشار اليه أن المكاتب الهندسية الخاصة تغري المهندسين, لكن الزميل كاتب التحقيق لم يأت على وسائل الإغراء, وربما جاء ذلك عمدا , ليجعل كلا منا يفكر بوسائل الإغراء التي يقدمها له صاحب العمل الخاص, ولن يكون الراتب هو وسيلة الإغراء الوحيدة, أو الوسيلة الأهم, بل التعامل مع الشخص من موقع خبراته, وكفاءاته, وجهده, هو برأيي عامل الإغراء الأول!. فالقطاع الخاص, ومهما كان العمل الذي يمارسه يأخذ جهدك, لكنه يقدره ويحترمه, وهذا هو الأهم..
فابحثوا عن أسباب رغبة الجميع- ربما- بهجرة أعمالهم الى غيرها..! وغيرها قد يكون في اغتراب..! وقسوة الاغتراب خارج الوطن ليست أشد قسوة من قسوة التغريب داخل الوطن.
وكثيرون يعيشون الغربة.. أو التغريب داخل مؤسساتهم وشركاتهم وإداراتهم الرسمية..!
فلا أحد يترك مكانا تآلف معه.. وعملا أعطاه أحلى سنوات عمره إلا اذا أوصلوه لمرحلة لم يعد يستطيع فيها التحمل, فيسعى الى غربة أخرى, لكنها ستكون أخف وطأة من تغريب يعيشه..!

د. سمير صارم

ليست هناك تعليقات: