في حين فشلت الحكومة السورية بإقامة بورصة رغم هدر الأموال الطائلة في اجتماعات وتشكيل لجان ومهمات سفر للعديد من الخبراء في هذا المجال إلى تركيا والأردن وغيرها ..نجد أنها نجحت بامتياز في تحويل منصب رئيس الحكومة إلى بورصة تتراوح أسهمها في ارتفاع وانخفاض حسب ارتفاع أسهم هذا المرشح أو انخفاض أسهم آخر ، وبدلا من أن يضارب المستثمرون في بورصة السندات أصبح الصحافيون هم المضاربون الرئيسون في بورصة رئاسة الوزارة .
فمنذ انتهاء المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم في سورية من ثلاث شهور والمقالات والأخبار لم تنقطع حول التغيير الوزاري الموعد وحول من يستلم رئاسة الوزراء ، وبدأت الأسماء ُتطرح لتنتشر كما الموضة في عالم الأزياء ، والبداية كانت مع راتب الشلاح رئيس اتحاد غرف التجارة في سورية وباعتباره ليس بعثيا تردد عن توجه الدولة في تعيين رئيس وزارة غير بعثي لتعزيز فصل حزب البعث عن السلطة وعد ذلك تكريساً لقرار القيادة القطرية/408 / ، لكن مع " تعيين " القيادة القطرية الجديدة وحجز رئيس مجلس الوزراء مقعدا في تلك القيادة بصفته و بغض النظر عن الاسم انخفضت أسهم راتب الشلاح رئيس اتحاد غرف تجارة دمشق مع الاشارة الى عمره المتقدم الذي عزز من هذا الانخفاض وبدأ اسم محافظ حمص المهندس البعثي إياد غزال بالصعود ولاسيما وانه مقرب من الرئاسة ،حيث فسر البعض عدم ترشحه إلى المؤتمر القطري بطموحه إلى رئاسة الوزراء ، إلا انه ونتيجة لخلافه الشديد مع رئيس الوزراء الحالي المهندس محمد ناجي عطري ونتيجة لعدم رضا كل الأجهزة الأمنية عن ترشيحه بسبب علاقته الجيدة مع القصر بما يجعله لا يصغي لهم، تم فتح ملفاته القديمة الحديثة بدءا من إشاعات حول توظيفه لأموال في مؤسسة الديري المفلسة ومرورا بخلافه مع أعضاء مجلس الشعب الحماصنة حول استملاك بعض الأراضي لصالح جامعة حمص وانتهاء بدفع 60 ألف دولار قيمة إعلان عن المؤسسة العامة للسكك الحديدية التي كان يديرها في إحدى الصحف الأجنبية والتي دفعت صحيفة المبكي السورية ثمناً باهظاً لنشرها هذا الملف حيث أغلقت وسحب ترخيصها,وحينها بدا نجم عبد الله الدردري رئيس هيئة تخطيط الدولة في الصعود وخاصة عندما تم تعيينه نائباً لرئيس مجلس الوزراء رغم انه غير بعثي حيث كتبت الصحف عن قيادته للانقلاب الاقتصادي في سورية وراهن الكثيرون على حنكته السياسية والاقتصادية وغير ذلك من الأقاويل الببغائية والتي أصبحنا نرددها دون تفكير ، إلا أن طول الفترة دون حصول التغيير الموعود جعل بعض الصحافيين يجزم بعدم إجراء أي تغيير وزراي وبقاء العطري في منصبه ، وكان رأي البعض استمرار الحكومة الحالية حتى آخر هذا العام و خاصة بوجود بعض الخطط الوزارية التي تنتهي مع مرور هذه السنة ، لكن ما لبث البعض يتكلم عن تعديل وزاري محدود وأصبحنا نسمع مصطلح الوزارات السيادية التي سيجري التعديل المزعوم فيها ، ولم تنته هذه الحملة حتى شكل بعض الصحافيون وزارة جديدة ،فوليد المعلم إلى الخارجية وبثينة شعبان إلى وزارة الإعلام رغم أنها تحب وزارة الخارجية والسفر كترضية لها بعد حزنها لعدم ورود اسمها في تشكيلة القيادة القطرية ، أما وزارة الثقافة فهي لمدير الاوبرا الحالي ويبقى وزير الخارجية فاروق الشرع الذي سيصبح نائباً لرئيس الجمهورية ، حيث تنتهي القصة كما الأفلام العربية بحيث يتم إرضاء الجميع من مشاهدين وممثلين وإداريين .
إلا انه وبعد إلغاء منصب نائب رئيس الجمهورية وزوال منصب نائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية حيث شغله سليمان قداح الأمين القطري المساعد السابق لحزب البعث ، لم يستو حساب السوق مع حساب الصندوق ، كما يقال ، وعادت الأمور إلى التعقيد فبلغت البورصة أعلى حد لها من المضاربة في الأسهم ، إلا أنها عادت وهدأت مع أخبار زيارة الرئيس إلى نيويورك لحضور إحدى جلسات الأمم المتحدة هذا الشهر حيث توحدت الآراء حول تغيير وزاري قبل سفر الرئيس لكن بقي منصب رئيس مجلس الوزراء محط خلاف ،حيث طرح اسم فاروق الشرع لقيادة الوزارة هذه المرة إلا أن مؤشره تراجع بعد ورود أخبار عن نيته في اعتزال الشأن العام فبدأ مؤشر وزير الزراعة الحالي عادل سفر في الارتفاع ليصل إلى أعلى حد له ثم بدأ اسم غسان اللحام ينافسه وتغلب عليه مع إقفال الترشيحات في نهاية الأسبوع ، لكن أخبار جديدة بخصوص انتساب عبد الدردري إلى حزب البعث جعلته مرشحا بقوة لرئاسة الوزارة حيث اعتبر انتسابه للحزب الحاكم تمهيدا لاستلامه المنصب الجديد وخاصة في ظل ورود أخبار عن محاربته من قبل بعض المسؤولين جعلته لا يتواجد في مكتبه بالوزارة كنائب لرئيس مجلس الوزراء ومزاولة أ عماله من مكتبه في هيئة تخطيط الدولة التي يرأسها ، لكن أسهم وزير المالية الحالي محمد الحسين صعدت بسرعة وضربت كل المقاييس حيث توقفت البورصة عنده الآن وخاصة وانه حالياً عضو قيادة قطرية دون حقيبة لان المكتب الاقتصادي في عهدة الأمين القطري المساعد محمد سعيد بخيتان إضافة لأسباب أخرى لا يتسع المجال لذكرها تجعله المرشح الأوفر حظاً حتى الآن !!.
طبعا أنا لا ألوم الصحافيين على تناولهم تلك القضية ومساهمتهم في تلك المضاربة وإنما احمل مسؤولية ذلك لغياب الشفافية عن الحكومة السورية وتعاملها مع تلك القضية كما غيرها بطريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال معتقدة أنها بأمان ،فأصبحت ابرز الغائبين عن أكثر القضايا حضوراً في ظل عطالة شاملة ضربت كافة أطنابها .
وكان الأجدى بالصحافيين أن يتوجهوا لمحاسبة هذه الحكومة في جردة لأعمالها وما حققته من وعود وإصلاحات بدلا من الانغماس في الشكليات والأسماء ، فحكومة محمد مصطفى ميرو السابقة جاءت على شعار الإصلاح الاقتصادي لكنها وبعد أربع سنوات لم تستطع أن تصلح أعضاءها فانتقلت من فشل إلى فشل بسبب عدم اعتراف القيادة السورية بعدم إمكانية إجراء أي إصلاح اقتصادي دون البدء في إصلاح سياسي ،واستحالة إقامة أي إصلاح في ظل فساد الموكلين بهذا الإصلاح والقائمين عليه رغم نكتة نظافة يد البعض التي راجت حينها وكذبتها استثمارات وقصور وأموال وشركات وفضائح هؤلاء والتي يعرفها البسطاء من شعبنا الطيب .
وجاءت حكومة عطري تحت يافطة الإصلاح الإداري وروج حينها بأن الإصلاح الاقتصادي يجب سبقه بإصلاح إداري في إصرار عجيب لعدم المباشرة في الإصلاح السياسي والحقوقي ، وسمعنا حينها عن تسليم ملف الإصلاح الإداري المزعوم إلى خبراء فرنسيين الذين قدموا تقريرهم بعد جولات وصولات وليبق حبراً على ورق دون تطبيق أو حتى قراءة .
ويحق لنا السؤال الآن عن إنجازات الحكومة السورية الحالية لنجد أنها نجحت في إصدار قرارات ارتجالية تم التراجع عنها مسوغة لذلك بسياسة التجريب التي انتهجتها مما افقد الثقة المتبقية بتلك الحكومة ، أما النظرة الأكثر عمقا فتحيلنا إلى فشل عام وفي كل المجالات يتراوح مابين انفجار سكاني وازدياد التصحر والفساد الإداري المشوب بالبيروقراطية المركزية ،فعلى الصعيد الاقتصادي الذي تتباهى حكومتنا بإنجازاتها في هذا المجال ، نجد هناك صناعة مفلسة ، ومعامل متصدئة ،و تلكؤ في التصنيع، وتزايد التبعية ،ومشاريع لاعقلانية، وزراعة مهملة ،وإنتاجية متراجعة، وعجز غذائي متفاقم ، ومديونية لا نعلم مقدارها فرغم تصريحات المسؤولين السوريين عن عدم وجود ديون على سورية تجري الآن مفاوضات من اجل إيفاء مليار دولار من اصل أربعة مليارات لروسيا الاتحادية على شكل بضائع سورية وتم فتح مكتب لبيت التجارة الروسي من اجل متابعة تحصيل تلك الديون ، إضافة إلى تعثر مسيرة التنمية ضمن استمرار وتعايش أنماط الإنتاج القديمة السابقة على الرأسمالية مع نمط الإنتاج الشبيه بالاشتراكي السائد ، إضافة إلى دخول علاقات إنتاج رأسمالية حديثة غير متجذرة في البنية الاجتماعية،وتخبط التخطيط الاقتصادي فتارة نعتمد الإدارة بالأهداف وتارة نعتمد الاقتصاد الموجه لنصل إلى آخر ابداعات هذه الحكومة باعتماد اقتصاد السوق وكذلك تخلف القوى المنتجة مع مصادرة بعض القطاعات بأكملها لصالح أولاد المسؤولين "الأذكياء حيث امتلكوا مليارات الدولارات بكدهم وعرقهم مع أنهم في مقتبل العمر" ،وتخلف التكنولوجيا في عالم تقوده الاحتكارات الكبرى والشركات المتعددة الجنسية تحت ستار العولمة وباسمها ، أما فخر هذه الحكومة في مجال التعليم فهو زائف بسبب التضخم الكاذب في المرحلة الجامعية الذي لا وظيفة اجتماعية له سوى تخريج أعدادا متزايدة من حاملي الشهادات العاطلين عن العمل ممن كادت أن تتحول بهم ومعهم الجامعات إلى "تكايا سلطانية" في عالم أصبحت فيه المعرفة سلطة وقوة يمكن امتلاكها والمشاركة بإنتاجها في عصر البنوك والمعلومات والاتصالات ، وكان فشل الحكومة مميزا في مجال الخدمات فهناك اكتظاظ وتزييف للمدن ، وانفجار سكاني في حلب ودمشق وتلوث ، واختناقات مقرفة في حركة السير والمرور أدى إلى مزيد من الاحتقان في صفوف الناس ، وأزمة مواصلات مرعبة سببت هدر الوقت دون داع ، وبنية تحتية للخدمات م تآكلة وعاجزة عن تجديد نفسها. وهناك أجهزة ثقافة وإعلام فاقدة للمصداقية ومغلبة للإيديولوجية على الثقافة إلى حد الابتذال ، ولازلنا حتى الآن نعيد طرح نفس الأسئلة منذ مائة عام ،ولازلنا نعيد صياغة نفس الإشكاليات بطريقة جديدة ،فقضايا التخلف والتجزئة والعدالة والحرية والديمقراطية مازالت هاجسنا ، أما تحديات المستقبل فتحمل في طياتها ظهور بذور هويات منافسة للهوية القومية ، وحتى أنها تهدد الوحدة الوطنية القطرية ، وخاصة مع استمرار التشرذم على محاور قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية ولنا في أحداث القدموس ومصياف والنزاع القبلي بين عشيرتي جبور وشمر ناقوس خطر يجب نزع فتيله بالحوار و العدل في رد المظالم لأهلها بدلا من التكذيب والنفي والتقزيم الذي جعلنا أضحوكة تلوكها ألسن القاصي والداني .
أما ما قيل عن محاربة الفساد فكان لذر الرماد في العيون إذ بقي كبار الفاسدين في أماكنهم متنعمين بسياراتهم الفارهة ومن حولهم جيش من الحويصة المخلصين يعتاشون على فتاتهم ، أما المفسدين الملاحقين فهم السارقون الصغار ومع ذلك تكف يدهم عن العمل ليستطيعوا أن يصرفوا ما جنوه فيما تبقى لهم من عمر ، وأصبح من الطبيعي رؤية صغار الضباط وصف الضباط وبعض الموظفين من الدرجة العاشرة وبعض العاملين في الجمارك ومهندسي البلديات وقطاعاتها و موظفي القصر العدلي مع بعض القضاة وبعض المحاسبين والجباة والمفتشين و بعض أساتذة الجامعات المرتشين إضافة إلى الشرطة بدءا من المرور وانتهاء بالمخافر ناهيكم عن الفساد في مؤسسات الصحة من استعمال لأدوية منتهية المدة وبيع بعض المعدات والأدوية الثمينة في السوق السوداء وبيع الوصفات والهدر في المال العام وبعض رجال الدين الفاسدين والمفسدين من كل الطوائف والمذاهب والذين يحللون ويحرمون " بالريموت كنترول " وحسب الطلب ...الخ من هذه السلسلة حيث يقطنون الدور الفاخرة ويمتلكون المزارع الفخمة والشاليهات البحرية اللطيفة ويركبون السيارات الحديثة مع حساب محترم في البنك.
لقد تم إشراك اكبر عدد ممكن في شبكة الفساد في سياسة منظمة ليصعب على أي كان التحرر من براثن الفساد واستحالة القضاء عليه .
أما الناس فكانت أوعى من الجميع إذ نأت بنفسها بعيداً عن كل هذه التجاذبات والشائعات والإشاعات فهي أصلاً لا تثق في الحكومة ولا في إجراءاتها ولا يهمها من قريب أو بعيد من يصبح رئيسا للحكومة أو وزيرا فيها وكل ما يهمها أن تعيش بكرامة وفي بحبوحة يتوفر فيها الحد الأدنى اللائق بالإنسان ، واعتقد أن هذه الطلبات جد متواضعة ولكن " أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال سيئا " الناس عندنا لا تشتكي ولا تتظاهر ولا تنتخب و لا تضرب ولا ولا ...لأنها يأست من وجوههم الصفراء وملت من خطابهم الممجوج و تعودت على إطلالتهم الباردة .
واثر اعلان دمشق عن ان الرئيس الاسد لن يسافر الى نيويورك فمن المؤكد ان تعود بورصة الحكومة السورية واسهم المرشحين والتشكيلات الحكومية المتنوعة بين التوقعات والترجيحات إلا أنني متأكد أن الحل لا يكمن في اسم رئيس الوزارة بل في المنهج ،فمنصب رئاسة مجلس الوزراء منصب تنفيذي ينفذ سياسة الدولة التي يكثر طباخوها من متنفذين وأمنيين وعسكر وقيادة قطرية ولجنة مركزية وجبهة وطنية ... وطالما بقيت السياسة السورية تطبخ هكذا فلن تتغير النتيجة كائنا من كان يستلم الحكومة.
د. عمار قربي
الأربعاء، سبتمبر ١٤، ٢٠٠٥
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق