الثلاثاء، يوليو ٠٥، ٢٠٠٥

الأجور في سورية

الأجور في سورية ....ضحى الشيخ حسن
أولاً- مقدمة نظرية:
يدخل العمل ورأس المال في العملية الإنتاجية التي ينتج عنها ما يسمى الدخل الوطني الذي يتوزع بدوره إلى أرباح وأجور . وتمثل الأرباح حصة رأس المال من الدخل الوطني ، بينما تمثل الأجور سعر (أو قيمة) قوة العمل ويفترض بها أن تعبر عن حجم مساهمة العمل في العملية الإنتاجية وفي تكوين الدخل الوطني.
وتتألف قيمة أو سعر قوة العمل( الأجر)من عنصرين هما العنصر الجسدي والعنصر التاريخي أو الاجتماعي.والعنصر الجسدي هو الذي يحدد الحد الأدنى لقيمة قوة العمل والذي يعادل قيمة وسائل المعيشة الضرورية للحفاظ على قوة العمل وإعادة تجديدها. أما العنصر التاريخي أو الاجتماعي فيتعلق بمستوى المعيشة التقليدي لكل مجتمع ويرتبط بالعادات والتقاليد والمستوى الثقافي لهذا المجتمع ،ويمكن لهذا العنصر أن يزيد أو ينقص أو يختفي كلياً ومع تغير قيمته تتغير قيمة قوة العمل مما يؤدي إلى تغير القيمة الزائدة (الأرباح) ، وحدود التغير في الأرباح إنما ترسمها الحدود الجديدة للأجور.
إذن، من أجل قيمة محددة للدخل الوطني، يؤدي تغير قيمة قوة العمل (الأجور) إلى تغير مقابل في الأرباح ولكن بالاتجاه المعاكس لأن علاقتهما متناسبة عكساً ، ولذلك فإن حصة رأس المال من الدخل الوطني ترتفع بمقدار ما تهبط حصة العمل (الأجور) والعكس بالعكس.
ويجب التمييز بين الأجر الاسمي والأجر الحقيقي (الفعلي).فالأجر الاسمي هو عدد الوحدات النقدية التي يتلقاها العامل كأجر. في حين أن ما يحدد الأجر الحقيقي (الفعلي) هو مقدار السلع التي يستطيع هذا العامل أن يشتريها بالمبلغ النقدي الذي تلقاه.
ويمكن للأجر الحقيقي أن ينخفض مع بقاء الأجر الاسمي ثابتاً أو حتى في حال ارتفاعه وذلك بسبب هبوط قيمة النقد وارتفاع أسعار وسائل المعيشة.لذلك فعندما نتحدث عن رفع الأجور فإننا نعني الأجر الحقيقي وليس الأجر الاسمي لأن ما يعنينا ليس عدد الوحدات النقدية التي يتلقاها العامل بل حجم السلع والخدمات التي تسمح له هذه الوحدات النقدية بتأمينها.وفي النهاية،وتحقيقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية،فإن ما يهمنا ليس الأجور الاسمية ولا الأجور الحقيقية وإنما نسبة الأجور إلى الأرباح (أي الأجور النسبية) التي تعبر عن نسبة حصة العمل في القيمة الجديدة التي خلقها إلى حصة رأس المال منها.فالأجور النسبية قد تهبط حتى في حال بقاء الأجور الحقيقية والاسمية ثابتتين بل وحتى في حال ارتفاعهما وذلك عندما ترتفع الأرباح بنسبة أكبر من نسبة ارتفاعهما.وهنا قد يطرأ تحسن على الوضع المادي للعامل بأجر ولكن على حساب وضعه الاجتماعي وذلك بسبب تفاقم حدة التفاوت الطبقي مع كل انخفاض جديد في قيمة الأجور النسبية.
ثانياً- واقع الأجور في سورية:
تفترض العلاقة الصحيحة بين الأجور والأرباح أن تتراوح نسبة الأجور بين (40-60) % من الدخل الوطني لأن انخفاض نسبة الأجور عن 40 % يؤدي إلى انخفاض حجم الاستهلاك لشريحة العاملين بأجر وهذا يؤدي إلى عدم قدرة قوة العمل على تجديد نفسها وتراجع إنتاجيتها أولاً وتراجع الطلب ثانياً ، مما يعني تراجع حجم الإنتاج اللاحق وتراجع معدلات النمو الاقتصادي.
أما رفع الأجور إلى أكثر من النسبة 60 % من الدخل الوطني فيؤثر سلباً على حجم التراكم (الاستثمار) مما يضر بالعملية الإنتاجية نفسها.
والملاحظ أنه حتى في موطن الرأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) تصل نسبة الأجور إلى (50-70) % من الدخل الوطني ، وأن هذه النسبة بلغت في سورية في منتصف القرن الماضي 43 % من الدخل الوطني رغم أن نسبة العاملين بأجر لم تكن تتجاوز 30 % من إجمالي العاملين في سورية آنذاك.أما اليوم حيث تقدر نسبة العاملين بأجر بـ 60 % من مجموع العاملين في سورية ، ترى كم تبلغ نسبة الأجور من الدخل الوطني ؟
يقدر العديد من الاقتصاديين حصة الأجور في سورية حالياً بـ 25 % فقط من الدخل الوطني بينما تشكل الأرباح النسبة الباقية منه (75 % ). كما قدرت إحدى الدراسات التي أعدت مؤخراً في معهد التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدمشق نسبة الأجور بـ 17 % فقط من الدخل الوطني خلال الفترة الماضية 1992-2003 بينما استقرت النسبة الباقية من الدخل الوطني ( 83 % ) في حصة الأرباح خلال نفس الفترة ( وهذه النسب محسوبة للقطاع النظامي فقط ).ولاحظت هذه الدراسة أن نسبة الأجور من الدخل الوطني قد انخفضت من 17.4 % خلال الفترة 1992-1996 إلى 16.3 % خلال الفترة 1997-2003 وذلك رغم حصول زيادتين متتاليتين في الأجور في الفترة الثانية في عامي 2000 , 2002 .
إن انخفاض نسبة الأجور من الدخل الوطني رغم رفع الأجور الاسمية مرتين يعني أن الأجور النسبية في تراجع مستمر رغم رفع الأجور الاسمية وهذا يعني بكل بساطة أن الزيادات المحققة في الدخل الوطني خلال هذه الفترة كانت تحوّل إلى حصة الأرباح. وهذا ما يفسر تراجع مستوى المعيشة للعاملين بأجر وتزايد حدة الاستقطاب الاجتماعي حيث كان الأجر الحقيقي والأجر النسبي يوغلان في الانخفاض مع كل زيادة جديدة في الأجور الاسمية.
ثالثاً- النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لانخفاض الأجور:
أدت سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي التي تبنتها الدولة منذ منتصف الثمانينات إلى تجميد الأجور مما جعل علاقة الأجور-الأرباح تميل بحدة لصالح الأخيرة خلال الفترة الماضية بحيث استقر معظم الدخل الوطني في حصة الأرباح. وهذا يتطلب اليوم إعادة النظر كلياً في مستوى الأجور نظراً للنتائج الكارثية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يخلفها الخلل في علاقة الأجور-الأرباح .
حيث يؤدي انخفاض الأجور إلى تقليص الاستهلاك إلى الحد الذي تعجز معه قوة العمل عن تلبية الحد الأدنى الضروري من الحاجات الأساسية اليومية مما يجعلها غير قادرة على إعادة تجديد نفسها وهذا يؤدي تدريجياً إلى انخفاض وسطي عمر قوة العمل.
ومن جهة أخرى يؤثر انخفاض الأجور سلباً على مستوى إنتاجية العامل مما يؤدي إلى تراجع في حجم الإنتاج وفي النمو الاقتصادي.
كما أن تآكل القدرة الشرائية لدى شرائح واسعة من المجتمع ينعكس سلباً على حجم الطلب المستقبلي ويؤدي إلى تضيق السوق الداخلية وهذا بدوره يقودنا إلى تراجع في حجم الاستثمار والإنتاج المستقبليين وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي (انكماش اقتصادي).
ويمكن اعتبار الأجور المرتفعة عاملاً جاذباً للاستثمار المباشر الأجنبي والمحلي نظراً لدورها في زيادة القدرة الشرائية وتوسيع السوق الداخلية ورفع مستوى الإنتاجية.وهكذا يصبح الحديث عن جذب القطاع الخاص للاستثمار أمراً غير مجد في ظل الواقع المعيشي المتردي للطيف الأكبر من المجتمع.
إضافة إلى أن تمركز الدخل والثروة يعني خروج جزء هام منها خارج الدورة الاقتصادية المحلية سنوياً مما يحرم اقتصادنا الوطني من موارد هامة يحتاجها لتمويل التنمية.
ومن زاوية أخرى،يؤدي انخفاض الأجور إلى حرمان شرائح هامة من المجتمع من أبسط الحقوق الإنسانية في تأمين شروط الحياة الكريمة من مسكن لائق ودخل يتناسب مع مستوى المعيشة وخدمات جيدة ، مما يولد الإحساس الدائم والمتصاعد بالغبن لدى هذه الشرائح ويضعف ارتباطها بمجتمعها ويتنامى هذا الشعور تدريجياً تحت وطأة أعباء تكاليف المعيشة المتزايدة.ومع تفاقم التفاوت في الدخول تتسع الهوة بين طبقات المجتمع مما يفرز تناقضات اجتماعية حادة تطفو على السطح بأشكال ومظاهر مختلفة ،ويمكن لهذه التناقضات أن تنتهي مع تنامي حدتها إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي والسياسي وتهديد الوحدة الوطنية.
إذن ينعكس انخفاض الأجور سلباً على الاستهلاك والاستثمار والإنتاجية والإنتاج أي على مجمل عملية الإنتاج بحيث يصبح عائقاً حقيقياً لنمو الاقتصاد وتنمية المجتمع.وهكذا يصبح تحقيق العدالة الاجتماعية (التي يؤمنها تصحيح علاقة الأجور-الأرباح) شرطاً موضوعياً لتحقيق تنمية اقتصادية-اجتماعية مستدامة. ويسبب غيابها حدوث اختناقات تؤدي إلى توقف عملية التنمية وتراجع معدلات النمو الاقتصادي وتهديد الاستقرار الاجتماعي.
رابعاً- مصادر رفع الأجور:
تؤكد الدراسة المشار إليها سابقاً على ضرورة رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 440 % لكي يتناسب مع الحد الأدنى الحالي لمستوى المعيشة. أما وسطي الأجور فيجب رفعه بنسبة 336 % لكي يتناسب مع المستوى الوسطي الحالي للمعيشة.
إن الاعتماد على المصادر التضخمية لتمويل زيادات الأجور السابقة ( أي رفع الأسعار ) كان يؤدي دائماً إلى رفع الأجور الاسمية فقط مع تراجع مستمر للأجور الحقيقية وهذا ما انعكس سلباً على مستوى المعيشة للعاملين بأجر، ولذلك فإن تحسين مستوى المعيشة لأصحاب الدخول الضعيفة يتطلب رفع الأجور من المصدر الحقيقي الوحيد (الأرباح) وذلك بتحويل جزء من الأرباح إلى حصة الأجور.ويتم لنا ذلك من خلال نظام ضريبي فعال يؤمن العدالة بالتكليف والوفرة بالموارد ويسمح للضريبة بتأدية دورها الاجتماعي المفترض في إعادة توزيع الدخل لصالح فئة ذوي الدخل المحدود.
وهذا يتطلب مكافحة التهرب الضريبي الكبير الذي يؤكده هذا التراجع المستمر في قيمة عبء التكليف الضريبي على القطاع الخاص .حيث انخفضت هذه القيمة من 7.21 % في عام 1992 إلى 6.47 % في عام 1996 ليستمر الانخفاض بعد ذلك التاريخ وليصبح القطاع العام هو المصدر لثلثي العائدات الضريبية الإجمالية للدولة.
وضمن نفس السياق تأتي ضرورة مكافحة التهرب الجمركي .ففي لبنان مثلاً تصل قيمة العائدات الجمركية خمسة أمثال قيمتها في سورية رغم تقارب حجم الواردات في البلدين وانخفاض قيمة التعرفة الجمركية في لبنان عن مثيلتها في سورية.
كما يتطلب أيضاً إعادة النظر في مسألة الإعفاءات الضريبية التي تغطي اليوم أكثر من 50 % من الناتج المحلي الإجمالي مما يعني تحويل العبء الضريبي بكامله إلى الفئات والنشاطات غير المستفيدة من هذه الإعفاءات.وهنا لا بد لنا من وقفة عند قانون تشجيع الاستثمار رقم 10 الذي أسهب في منح المحفزات الضريبية لكافة المشاريع المشملة به دون تمييز فيما بينها فشجع بذلك النشاط الطفيلي والهامشي على حساب النشاط الإنتاجي الحقيقي وساعد على التهرب الضريبي وساهم في تكريس عدم عدالة توزيع الدخل والثروة وعمّق الاستقطاب الاجتماعي وحرم خزينة الدولة من عائدات ضريبية هامة ما يستدعي اليوم ضرورة إعادة النظر في هذا القانون بحيث يتم ربط الإعفاءات الضريبية بالجدوى الاقتصادية والاجتماعية للمشروع.
وقد انعكس التهرب الضريبي والجمركي والإعفاءات الضريبية على حجم مساهمة القطاع الخاص في الضرائب والتي بلغت فقط 6 % (كما يشير قطع حسابات الموازنة العامة للدولة للعام 2003 ) رغم أن مساهمة هذا القطاع في الدخل الوطني بلغت 63 % تقريباً خلال العام المذكور.
ونشدد أخيراً على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية لأنها أولاً شرط أساسي لتحقيق تنمية مستدامة ونمو اقتصادي مستقر.حيث تؤكد التجارب التنموية على ضرورة عدم التفريط في التوازنات الاجتماعية (تخفيض معدلات البطالة، حل مشاكل الفقر،عدم ضغط الإنفاق العام الاجتماعي، مراعاة أوضاع ذوي الدخل المحدود) لصالح التوازنات الاقتصادية. إذ أن الموازنة الدقيقة بين التوازنات الاجتماعية والاقتصادية ضرورية لضمان سلامة مسيرة التنمية. وأي خلل في التوازنات الاجتماعية يعصف بالتوازنات الاقتصادية مهما تم تصميمها بمهارة ودقة.
و ثانياً لأنها تضمن حق المواطن في الحياة بشروط إنسانية لائقة.

ليست هناك تعليقات: