الأحد، يوليو ٢٤، ٢٠٠٥

المسـتنقع

لقد كان الخلاص من الحرس القديم في القيادة إنجازا كبيرا ولكن الخلاص من الحرس القديم أو الأقدم في كل مكان سيكون الإنجاز الأكبر. إعفاء عشرة قياديين أمر عظيم ولكن إعفاء المئات من المسؤولين الخلبيين في المحافظات سيكون أمرا أعظم علما أن معظم هؤلاء أتباع أولئك.
هناك مسؤولون موجودون – مجرد وجود - في مواقعهم منذ الأزل. ومواقع هؤلاء استراتيجية وخطيرة جدا لأنها الخط الأول وعلى تماس مباشر مع الشعب. ويلعب الأداء العام لهؤلاء المسؤولين الدور الرئيس في تشكيل الموقف الحقيقي للمواطنين من إجماع وولاء أو ارتداد وسخط . يضع هؤلاء صورة القائد فوق رؤوسهم ومصالح الوطن تحت أقدامهم.
ويستطيع المتابع للشأن العام أن يرى بسهولة أن معظمهم لا يتمتعون أبدا بثقة المواطن بل هم موضع شكه واتهامه ويحملهم الكثيرون مسؤولية الترهل والاستنقاع والفساد بغية تيئيس المواطن وتنفيره واغتيال الوطن والوطنية من جوارحه . هؤلاء هم الذين لاهمّ لهم إلا ملء جيوبهم ولو كانت النتيجة إفلاس الشعب كله: الولاة العثمانيون
لو أنَّ سوريةَ قائدٌ وشعبٌ فقط، لو أنها بلا وزراء ومدراء وأمناء فروع ومحافظين ومسؤولين، لو أن كل الذين يقفون بين ابن الشعب الاستثنائي والشعب الاستثنائي يختفون عن وجه الأرض وعن بكرة أبيهم دفعةً واحدةً، لكانت سوريةُ سيدةَ الدنيا ونموذج الفضيلة، خاليةً من الفساد والمفسدين، وعصيةً على العدوان والمعتدين.
هناك شبه إجماع بين السوريين أن المساحة القائمة بين السيد الرئيس والمواطنين هي منطقة عازلة فاصلة وليست رابطة واصلة. إنها حقل ألغامٍ تتم فيه تصفية الأبناء الحقيقيين لسورية الذين جُبلوا على الولاء المطلق للوطن وقائد الوطنٌ. إنها المستنقع الذي تجري فيه إبادة القادرين على العطاء، السوريين الشرفاء، أعلام المواهب ورجال الإبداع وأصحاب المواقف المستعدين للموت جوعاً كي لايموت الشرف في الوطن.
هذه المنطقة الموبوءة مسكونة بالرخائيات الحربائيات البرمائيات عديمي الجوهر فاقدي المضمون ورقيي الهوية. إنهم مجموعة من متسلقي المراحل ومقتنصي الفرص ومتسللي المناسبات. إنهم عصابة من تجار المواقف وأكازيونيي الولاء وخبراء الصفقات وأبطال المبيعات و فرسان المناقصات. هنا تنشط مافيات المناصب وخلايا الاختلاس وزعماء العلاقات المريضة وإقطاعيو المزارع السياسية الجديدة وأرباب الانتماءات الرخيصة ومصاصو دم الوطن. في هذه المنطقة السوداء يتصرف المسؤول في دائرته وكأنها ملك خاص له ورثه عن أجداده فهو المالك الوحيد و الآخرون من حوله خدم وحشم وأجراء و جاريات ومحظيات. في هذه المنطقة السوداء توجد سوق سوداء يتم فيها بيع كل شيء وشراء كل شيء من أصوات الناخبين إلى الأشخاص أنفسهم ومن المواقع إلى المواقف. هذا هو الواقع. هذه هي الحقيقة. هذا هو المستنقع.
حالما يستلم المسؤول عمله الجديد، يبدأ بتقسيم الناس وتصنيفهم من جديد حيث يكون هو المعيار الوحيد. وفي هذا التصنيف لاتدخل أبدا مقاييس العمل والشرف والولاء لسورية. المسؤول الجديد يعتبر نفسه القائد الوحيد و الوطن الوحيد. هو الظاهر والباطن والأول والآخر. الولاء له وليس للوطن. الولاء له وليس لقائد الوطن. من كان معه وصفق له ومسح له كُتبت له الحياة حتى لو كان هذا الشخص رخيصا منافقا مرتكبا ومدانا. ومن لم يقف ضد المسؤول الجديد يتم إعفاؤه وإقصاؤه وتصفيته وظيفيا حتى لو كان مثالا في عمله و استشهاديا في عطائه بل حتى لو كان إبعاده ضربة قاضية للمؤسسة.
ولأن الموظفين الشرفاء كتلة من الكرامة والكبرياء ولأن انتعالهم صعب وامتطاءهم مستحيل يتم تهميشهم وتوقيفهم عن العمل.
وهكذا لا يبقى في المكان إلا المسؤول الفرعون و حاشيته من الرخيص من الناس بالعي الإهانات، بائعي الأعناق، نعليي الأفواه ومحدودبي الظهور. نعم في هذا المستنقع تنقلب نظرية داروين رأسا عل عقب. إذ ليس البقاء للأفضل وليس البقاء للأفهم وليس البقاء لمن يرتبط بقاء الوطن مصيريا ببقائهم وأمثالهم. البقاء الآن للبغاء. فمخاتير المؤسسات وشيوخ الدوائر لايريدون إلى جانبهم أحدا ماعدا العبيد والأقنان. ليس عجيبا ان تنقلب منظومة القيم راسا على عقب. فالشرف عار والعار شرف. الأمانة خيانة والخيانة أمانة. الوطنية انتهازية والانتهازية العميلة الحقيرة القميئة المقيتة الدنيئة منتهى الوطنية.
لهذه الأسباب ولأن هؤلاء المسؤولين يعرفون أنفسهم ويريدون الوصول إلى تجميع أكبر ثروة بأقصر وقت و يريدون سيطرة مطلقة على مؤسساتهم دون وجود أصوات معارضة راح المسؤولون يعتمدون على علاقات مريضة منقرضة لأنها تضمن لهم بقاءهم. ومن هذه العلاقات التي عادت للظهور بعنف العائلية والطائفية والإقليمية والعشائرية. لذلك يكون للمستخدم أو السائق صلاحيات ونفوذ أكثر من نائب المسؤول أو وكيله المباشر. لقد صار القطاع العام مشروعا عائليا وكأن مؤسسات الدولة كلها قد تعرضت للخصخصة السرية بكل ما تحمله هذه الممارسة من خصاصة وخيانة.
لذلك يستغرب الناس وهم ضمير الوطن كلما تم تعيين مسؤول جديد. فهم لايصدقون كيف يتم اختيار شخص ما علما أن أي مواطن أفضل منه. ويتساءل الناس إلى متى سيظل الانتقاء محصورا على حفنة من الأسماء التي يتم تحريكها مثل قطع الشطرنج من مكان إلى آخر. ومايزال الناس ينتظرون من الدولة أن تكتشف الوطن كل الوطن. إذ كما أن أهم الثروات الطبيعية خارج العاصمة هناك ثروات بشرية كبيرة في مختلف أرجاء سورية.
للخلاص من المستنقع والقضاء على مافياته كلها لابد من التواصل المستمر والمباشر بأي طريقة كانت بين الشعب وقائد الوطن.

د. أحمد العيسى

ليست هناك تعليقات: