الأربعاء، يوليو ٠٦، ٢٠٠٥

سياسة هزّ اللكس

اياد ابراهيم
ليس بعيدا جدا ذلك الزمن الذي كنا نمضي فيه ليالينا على ضوء (اللكس) قبل أن تصل الكهرباء الى قرانا ، "ولمن لا يعرف اللكس هو فانوس يعمل بأدوات غير الكاز والفتيل لكن بنفس المبدأ حيث يستخدم الكحول والقميص (قطعة قطن مخرمة ) فالكحول يتسرب من خزانه وفق كمية يحددها الشخص لتصل الى القميص المدلى من أعلى اللكس كالقبة المقلوبة ثم نشعله بعود ثقاب ليعطي ضوءا أبيض أقرب الى ضوء النيون" .
كل ليلة كان أحد أعمامي يشعل اللكس ايذانا ببدء سهرتنا القروية فيجتمع العشرات من الفلاحين يرتمون في أرجاء (المنزول) المفروش بمساند القش وطراحات القماش الممدود فوق بسط جدلت بعزم وبساطة أهل القرى وجمال نفوسهم (آنذاك طبعا) .. يرتمون فوق هذه الطراحات سكارى من التعب بعد نهار مجهد وسط الحقول والكروم ، فيتبادلون السير والطرائف ويقهقهون طويلا اذا ضبطوا أحد السهارى مستسلما لتعبه مغمضا عينيه في غفلة عن الآخرين مستغلا عتمة احدى زوايا الغرفة الهاربة من ضوء اللكس ، ولا تنتهي السهرة قبل أن ينطفئ اللكس بفعل انتهاء الكحول فيغدو كساعة تقنن سهراتنا اليومية.
ومع الأيام يتقادم القميص ويصبح هشا متماسكا فقط بفعل رطوبته لا يحتمل أكثر من رفع الزجاجة التي تحميه وقذف عود ثقاب تحته ، وما زال اللكس متدليا وسط سقف المنزول ينتظر ضيوف سهرته اليومية والقميص يتقادم بتعاقب السهرات الى أن يسقط بفعل هزة عرضية أو متعمدة تأتيه غالبا من جدي الذي لا يرضيه أن يلحظ أحدا قبله ان القميص بات مستهلكا بما فيه الكفاية ويجب استبداله بجديد ، وما أن يشاهده على هذه الحال حتى ينقف بسبابته قاعدة اللكس نقفة لطيفة فيسقط القميص المهترئ ويبتسم جدي ابتسامة رضا ويمضي .. وقبل المساء يأتي عمي ليشدّ قميصا جديدا ثم يملأ خزان اللكس بالكحول ويقذف تحته عود ثقاب لتبدأ سهرة أخرى من سهراتنا القروية.
لا ريب أن هذه هي طبيعة الأشياء ، فكل ما يصل الى مقام عال ولو بارتفاع ما يصل اليه قميص اللكس يتمسك بمقامه ولا يتركه إلا بالنقف ، وبعض الناس كهذه الأشياء ما ان تصل الى مقام يفترض أن يكون عبئا ومسؤولية حتى (تتعربط) بموقعها وتحاول امتصاص كل ما يأتي عن طريقه من خير ليغدو المنصب فرصة للكسب والاثراء وكأنه منحة أوعقد عمل بأجر كبير.
وسط هذه القيمة المادية والمعنوية للمنصب يصعب على المرئ التخلي عنه ولا سيما أنه ما من إعلام يتاح له ممارسة سلطته الفعلية (بالنقف على مراتع الفساد) وما من سلطة تفعل دور الرقيب بمسؤولية وجدية ، لتغدو مؤسساتنا ملكا خاصا لمدرائها ، والعاملون فيها أجراء لهم ينالون من الحظوة بقدر ما يظهرون من الولاء فتتشكل في مؤسسات الدولة موانع طبيعية لا تسمح لأصحاب الكفاءات بالنفوذ عبرها بينما ترشح منها شخصيات النمط المصلحي التي يراد لها أن تبرز كنموذج يوحي لأصحاب القرار بأنه هذا هو الموجود !!
وبين هذين النمطين يختبئ نمط ثالث من العاملين في مؤسسات الدولة درجت العادة على تسميتهم بالأرقام نظرا لحيادهم المطلق (جماعة الحيط الحيط ..)، فهم لا يذكرون إلا عند احصاء العاملين في المؤسسة ، وهؤلاء بقدرما يعدّون بنظر الادارة مثالا للموظف السوي ، بقدر ما يشكلون أمام المطالبين بالاصلاح عقبة وعائقا يلعب دور المادة الزلقة التي تصعّب أية محاولة للامساك بالأمور.
ولما كانت الأمورعلى هذه الحال فان الموانع التي تفصل بين الكفاءات وأصحاب المصالح والولاءات والتي تولدت بفعل ظاهرة الحفاظ على المناصب هي ذاتها يمكن استخدامها لتصحيح الوضع عبر قلب القارورة أو النقف عليها حتى تتساقط أطناب الفساد.
ولكن .. إذا كان الاعلام لا يمارس دوره الفعلي في ظل عجز واضح عن فهم ما هو مطلوب منه نتيجة معاناته من حالة التصلب الإداري ، أفليس من الأولى النقف على قميصه الاداري قبل تكليفه بمهمة نقف مؤسسات أخرى؟
/كلنا شركاء/

ليست هناك تعليقات: