ناصر الماغوط
لا اخفيكم سرا انني قد عشت على مدى الاشهر القليلة الماضية نوبة من القلق كنت مضطرا خلالها لتناول الكثير من الاقراص المهدئة كي استطيع مواصلة حياتي بشكل طبيعي. هذه الفترة كانت تحديدا قبل المؤتمر الاخير للحزب وخلاله واستمرت لفترة قصيرة تالية له حتى انجلت الغيوم وعادت الامور لسيرها الطبيعي تماما كما كان عليه الحال قبل المؤتمر، ومعها عادت اموري النفسية الى الانشراح التدريجي.
قد يقول قائل: وما علاقته بالمؤتمر، خصوصا ان الكثيرين يعتقدون بان المؤتمر يخص البعثيين فقط. لكن هذا غير صحيح لان الحزب هو القائد للدولة والمجتمع، وبوصفي احد الذين يعيشون على تراب هذا الوطن العظيم يعني ذلك ان للمؤتمر علاقة مباشرة بحياتي وحياة كل واحد منا.
لا اريد ان اخرج عن الموضوع، لكن اود ان ابين بمنتهى الوضوح والصراحة ان علاقتي شخصيا مع المؤتمر هي غير علاقات الاخرين به لانني "شبه" كاتب وناقد وبحاجة دائما لوجود سلبيات اتناولها وابني عليها مقالاتي. خصوصا انه قد شاع بين المواطنين بان المؤتمر سيتخذ قرارات هامة على صعيد محاربة الفساد وسيوصي باصدار قانون للاحزاب وسيلغي قانون الطوارئ. وفي كل مرة كنت اسمع بهذ التوقعات كان يقف شعر راسي وابادر فورا لتناول الاقراص المهدئة، لانني اشعر، بصراحة، انه لو تمت هذه الامور سيكون ذلك بمثابة كارثة حقيقية لي، اذ عم ساكتب عن غير الفساد والمحسوبية والواسطة والتاقضات الاخرى التي يعج بها مجتمعنا؟ هل اكتب عن الحب؟ والحب الوحيد الذي يسمح بالبوح به وممارسته علنا في بلادنا هو حب المواطن لحكومته وهيامه فيها والتذلل والمداهنة لنيل رضاها المتمثل بالحصول على وظيفة حارس او مخبر. نقطة. انتهى الحب. هل اكتب عن الفن؟ الفنانة الفلانية تزوجت او طلقت والمطرب الفلاني اصدر البوما جديدا؟ والفاسد الفلاني فتح كبريه وتزوج الراقصة الفلانية؟ مستحيل ذلك، لهذا كنت اخاف ان تصدر في ختام المؤتمر بعض التعويذات والتمائم فيتم اجتثاث و استئصال الفساد من جذوره والفاسدين من اصولهم بقدرة قادر وتتحول البلاد بين عشية وضحاها الى جمهورية افلاطونية فاضلة.
فعلا خفت من كل عقلي، لكن امام الاخرين وفي الشارع وفي المقهى كنت اتظاهر بانني رابط الجاش واعلق امالا كبيرة على المؤتمر واقول بانه سوف يشيل لنا الزير من البير. اما في صلواتي الخاصة كنت اتضرع الى الله ان تبقى الامور على حالها كي ابقى اكتب.
لشدة خوفي وقلقي، خطر على بالي ان اتخذ بعض التدابير الاستباقية على الطريقة الامريكية، من بينها القيام بارسال رسائل الى بعض الرفاق ذوي اليد الطولى في الدولة احذرهم فيها من ان اية اجراءات جدية قد تتخذ لمكافحة الفساد تعني القضاء عليهم في المستقبل تماما لان مكافحة الفساد تستدعي بديهة القضاء على الفاسدين الذين هم اصل البلاء. كما فكرت ايضا ان احذرهم من رفع حالة الطوارئ وتفعيل دور مؤسسة القضاء والحض على استقلالها ونزاهتها لان اول مهمة ستقوم بها مثل هذه المؤسسة القضائية هو استدعاء هؤلاء الرفاق وشحطهم الى داخل قفص الاتهام. اردت ان احذرهم من عواقب الاصلاح الجدي الذي اول ما يتطلبه هو القضاء عليهم لانهم هم العقبة الكاداء في طريق الاصلاح. اردت ان احذرهم ايضا من السماح بوجود احزاب مستقلة عن الحزب الحاكم غير الاحزاب العائلية مثل حزب عائلة بكداش لان ذلك يشكل تهديدا لجميع الاحزاب الحالية المتحالفة والامتيازات التي تتمتع بها نخبها.
اردت ان اقول اكثر من ذلك واذ بهم والحمد لله شباب واعين تماما لهذه النتائج، وادركت بان لازمة الحديث عن الاصلاح قديمة قدم الفساد ذاته، وهي ان تعالت اكثر هذه الايام لان الفساد بلغ ارقاما قياسية وتجاوز المعقول، ولو كانوا فعلا جديين بمكافحته لاستلزم ذلك منهم اعلان حالة طوارئ حقيقية خاصة به لان رموزه قادرون على زعزعة استقرار المجتمع فيما لو شعروا بتهديد جدي لمواقعهم. وبما ان الامر ليس جديا، لذلك يكتفون اليوم برفع وتيرة الخطابات والوعود اكثر مما مضى لتكون الدعاية بقدر المنتج. فالفساد الهائل يريد ماكينة ضخمة من الدعاية للتغطية عليه والتظاهر باستئصاله.
سررت كثيرا بهذه الاستنتاجات واطمان بالي اليها وامنت بانني سابقى اعلك واتندر حول الفساد الذي على ما يبدو سوف يستمر بالاستفحال والاستشراء كالسرطان حتى يقتلعنا من جذورنا.
الأربعاء، يوليو ٢٠، ٢٠٠٥
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق