الأحد، جمادى الآخرة ١٨، ١٤٢٦

نحو سيادة القانون والمساواة أمامه

سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع ( نص الدستور السوري في المادة 25 منه : المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات ) ، والدولة مضت عشرات السنين ونحن نطمح أن يسود القانون في بلادنا فوق جميع الناس مواطنين ومسؤولين ، وأن يتساوى أمامه كل من الحاكم والمحكوم .

وأهدرنا الكثير من الوقت والجهد، وبَذلَ الكثير من أبناء هذا الوطن الحبيب الغالي والرخيص في سبيل تحقيق سيادة القانون والمساواة أمامه. والنتيجة كانت ضياع تلك السنوات من عمرنا ومن عمر الوطن ،فسيادة القانون مازالت منقوصة ، والمساواة أمامه بقيت مهدورة .

ومع ذلك مازلنا نسمع بين الحين والآخر أصواتاً تقول: أن سيادة القانون في بلادنا قد تحققت منذ زمن بعيد ، والناس متساوون أمامه في الحقوق والواجبات ودليلهم أن بلادنا من البلدان القليلة في العالم التي تنعم بالنظام واستتباب الأمن ويشهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء .

ونحن لم ولن ننكر أن بلادنا تنعم بالأمن ، ولكن هل تتحقق سيادة القانون والمساواة أمامه بمجرد فرض النظام واستتباب الأمن ؟ وهل تتحقق تلك السيادة إذا كانت الأجهزة المكلفة بحماية النظام واستتباب الأمن ، نجدها تتدخل في كل شاردة وواردة في مؤسسات الدولة العامة والخاصة ؟ وقد قيل في تبرير هذا التدخل أنه موجه فقط لمراقبة الفاسدين وكشفهم ومحاسبتهم ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل تم القضاء على الفساد ، أو على الأقل هل تم الحد من انتشاره في تلك المؤسسات ؟ الواقع يقول عكس ذلك تماماً ، فالفساد مذ دخل البلاد أخذ ينتشر حتى عم في كل مكان ، وبدأت تطفو على السطح طبقة فاسدة اغتنت على حساب الدولة والشعب معاً ، حيث يتبارى أعضاؤها في بناء القصور الفارهة والمزارع واقتناء سيارات سنة صنعها الخ ، ولا يجرؤ أحد على محاسبتهم أو حتى الاقتراب منهم ، كل ذلك جرى تحت نظر وسمع تلك الأجهزة الأمنية ، المفترض أن تكون مهمتها الأولى والأخيرة محصورة في مكافحة الجاسوسية وحماية أمن المواطن وسلامته وسيادة القانون.

لكن وللأسف لم ترَ تلك الأجهزة أمامها سوى أصحاب الرأي من الوطنيين المفكرين والمثقفين والناشطين في السياسة وحقوق الإنسان فضيقت عليهم بالمنع من السفر والاعتقال ، وهم الذين أظهروا في غير مناسبة استعدادهم لتقديم الدعم للجهود الإصلاحية التي أطلقها السيد رئيس الجمهورية في أحاديثه وخطبه. إنها لمفارقة غريبة حقاً أن يجري ذلك ، بينما الفاسدون والمفسدين يسرحون ويمرحون في طول البلاد وعرضها .

وهل تتحقق سيادة القانون إذا لم تحمل تلك السيادة في مضمونها أيضاً معنى تقيد الحكام ، لا بل إلزامهم باحترام القانون ، وإلا تصبح السيادة في هذه الحالة ذريعة لتبرير الاستبداد ؟

وهل تتحقق السيادة للقانون والمساواة أمامه بمجرد النص على ذلك في الدستور ؟ إذا لم تحمل تلك السيادة في مضمونها خضوع الدولة للقانون ، بالتوازي مع وجود جهاز قضائي قوي مستقل وكفء كضمانة لمراقبة هذا الخضوع ، بحيث يكون من حق كل شخص أن يلجأ إلى قضاء مستقل عادل ، متى تأثرت مصالحه بتصرف صادر من السلطة أو الفرد على حد سواء ، فالرقابة القضائية تحد من شطط السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار تشريعات وقرارات تنتقص من سيادة القانون وحقوق الناس وحرياتهم .

وفي عصرنا الرهان يقاس تطور الدول وتقدمها بمدى سيادة القانون فيها واستقلال قضائها ، على اعتبار إن الدولة في المجتمعات الحديثة تخضع للقانون ، ولا يخضع القانون فيها للدولة ، كما يخضع للقانون كل من الحاكم والمحكوم مهما كان شأن الحاكم ،لأن الحاكم مجرد إنسان ، ليست لإرادته قوة منشئة في عالم القانون أعلى من القوة التي تكون لإرادة أضعف شخص من رعاياه.

وبناء على ذلك ، لا يجوز للمسؤول مهما علت مكانته أن يصدر بنفسه أو بالواسطة تشريعات تنتقص من مبدأ سيادة القانون والمساواة أمامه كما في بعض القوانين التي تحجب حق التقاضي ، أو شل أثار بعض الأحكام القضائية المكتسبة الدرجة القطعية عبر تعطيل تنفيذها كلياً أو جزئياً وما يترتب على ذلك من مسؤوليات سياسية واقتصادية وجزائية ومدنية . والأخطر من ذلك زعزعة الثقة بالسلطة القضائية وبالقرارات التي تصدر عنها.

وسيادة القانون لا تتحقق فعلياً في أي مجتمع ، ما لم تُفرض هذه السيادة أيضاً وأيضاً على جميع السلطات في الدولة ، وعلى السلطة التشريعية أثناء سنها لأي تشريع أن تهتدي بالقواعد الدستورية ومبادئ الحق الطبيعي والعهود والمواثيق الدولية المؤسسة على احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة . لأن السلطة في أي دولة كانت إذا لم تهتد بمثل هذه القواعد التي تعتبر ضوابط ملجمة لها، تستطيع أن تسن ما تشاء من التشريعات تضيق فيها الخناق على أفرادها ، ثم تأتي تلك السلطة لتقول أن سيادة القانون متحققة كونها خاضعة له ، ونسيت أن سيادة القانون هنا شكلية باعتبار أن السلطة هنا تخضع للقانون الذي وضعته وهذا ما يؤدي إلى تحقيق الطغيان باسم القانون وسيادته .

والملاحظ في المجتمعات الحديثة والمتطورة أن مبدأ سيادة القانون قد سيطر على جميع النواحي الحقوقية فيها ، وحتى تضمن تلك المجتمعات التطبيق السليم لمبدأ سيادة القانون وإنتاج آثاره على أرض الواقع دونما أية شوائب أو عوائق ، عمدت إلى حمايته ورعايته بالتطبيق الموازي لمبدأ أخر ضروري متمماً له ، وهو مبدأ قيام جهاز قضائي يتصف بنظام قوي ويتألف من رجال أكفاء يتمتعون بالاستقلال المطلق تجاه السلطة السياسية ، مع توفير الاحترام من الحكام والمحكومين للأحكام التي يصدرها هذا الجهاز القضائي، وعلى جميع الجهات العامة ابتداء من البرلمان وانتهاء بأبسط المجالس المحلية ، ابتداءً من رئيس الدولة وانتهاءً بأصغر موظفيه ، على كل هؤلاء أن يحنوا رؤوسهم للقضاء .

وبكلمة واحدة يجب على الجميع الاعتراف بأن الدولة نفسها مرتبطة بأحكام محاكمها، ولا يجوز لها أن تصدر قرارات خارج الحدود التي رسمها القانون ووفقاً لقواعده وأحكامه . وإذا ما تجاوزت هذه الحدود أو تخطت هذه القواعد ، فإن القضاء المختص يعلن بطلان القرارات المتخذة ، وما يتخذه بهذا الشأن يفرض على الدولة التي عليها أن تضمن تنفيذه دون أي تردد، بعيداً عن المماطلة والتسويف . .

وقد قال رئيس مجلس الدولة الفرنسي السابق رينيه بهذا الصدد : لا يمكن أن تقوم سيادة القانون أو تتحقق إلا حيث يكون الإقرار بحقوق الإنسان واحترامها متوافراً على أكمل وجه ، وإنه لأمر جوهري أن يحمي هذه الحقوق نظام قانوني ، حتى لا يكون المرء مضطراً في النهاية إلى الثورة ضد الطغيان والظلم والرقابة القضائية على أهميتها القصوى لوحدها لا تكفي ، إذا لم نسع إلى تأصيل روح الحرية واحترام القانون لدى الحكام والمحكومين على السواء وجعل هذه الروح حية على الدوام في قلوب الناس ، علنا نساهم في تكوين وعي حقوقي وأخلاقي ذو محتوى إنساني لدى الناس جميعاً، في عملية مستمرة ودائمة ، بدءاً من البيت والمدرسة والجامعة والمعمل الخ ، وجعله منطلقاً وأساساً في بناء وتطوير وطننا وإعلاء رايته عالياً بين الأمم وتخليصه من كل عيب، خاصةً ذلك الفساد المستشري الذي أصبح ينام ويأكل معنا. فما قيمة نصوص الدستور والقوانين إذا لم يقم على تطبيق تلك النصوص نقابة محامين حرة مستقلة وسلطة قضائية مستقلة كفأة وعادلة . وما قيمة تلك النصوص أيضاً إذا خمدت روح الحرية واحترام القانون في قلوب الناس . ؟


المحامي ميشال شماس

ليست هناك تعليقات: