الجمعة، صفر ١٠، ١٤٢٧

من المواطنة مرح البقاعي إلى الرئيس بشار الأسد

حين قرأت أمس مقالا على موقع أخبار المحيط عن رؤية الرئيس بشار الأسد لجهة وجوب تطوير آليات إعلامية في الخارج لمواجهة الإعلام الذي يستهدف سوريا، مؤكدا على أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به الجاليات السورية في المغتربات لنقل الصورة الحقيقية لسوريا، أصبت بالدهشة!

فهل الرئيس الشاب لم يعرف عن قصة شهيرة في الإعلام السوري، جرت في عهده الميمون، وتناقلتها وسائل الإعلام العربية والأوساط السورية الحكومية والأمنية بنهم شديد،قصة برنامج "عبر الأطلسي"، أول برنامج سوري دولي ينتج في الولايات المتحدة الأميركية ويؤسس لعلاقة إعلامية ندية متوازنة بين سوريا والولايات المتحدة؟ برنامجا لو كان ما زال قائما حتى اليوم لكان أسهم،فعلا لا قولا، في رأب الشرخ و تفعيل الحوار بين الطرفين!
و على افتراض مني بريء بأن مستشاري السيد الرئيس لم يهتموا بتبليغه ولو بموجز لما حدث في العام 2002 في أروقة وزارة إعلامه العتيدة، أو أنهم قصوا عليه روايتهم الخاصة دون الرجوع إلى مصادرها، وجدت لزاما علي ـ ودفعا باتجاه الحقيقة ـ أن أعيد نشر تفاصيل الواقعة ومجرياتها، بدقة العارف و تسليم الملدوغ، من خلال حوار أجرته معي السيدة بهية مارديني أطلقنا عليه عنوان "مجزرة الإعلام السوري"، وذلك للإطلاع الرئاسي حصرا:

إليكم الحوار بلا تعديل:

في ظل الحديث عن الإعلام السوري وعن الرغبة في تطويره وعن الحوار السوري الأميركي ومقتضياته كان لابد من الحديث عما سمي مجزرة الإعلام السوري، التي أقصت 18 موظفا عن التلفزيون، من خلال الحديث مع الإعلامية مرح البقاعي التي أعدت وقدمت برنامج عبر الأطلسي السياسي للتلفزيون السوري من واشنطن ولكن تم إيقافه نتيجة لبث إحدى حلقاته من دمشق ما قبل الدخول الأميركي إلى العراق بأسابيع و تم على إثرها تسريح 18 موظف من العاملين في الهيئة وعلى رأسهم مدير الفضائية في ذلك الوقت والمدير العام للتلفزيون آنذاك الدكتور فائز الصايغ .

سؤال: كإعلامية كنت تعملين في سورية. هل لك أن تحدثينا عن أوجاعك بقلب مفتوح:

البقاعي:أثار مقالك عن حملة التحديث المرتقبة في الإعلام السوري، أثار شهيتي لأعود بذاكرتي إلى الوراء وأسرد، وللمرة الأولى، مشهد آخر"حملة تطهير" شهدتها وزارة الإعلام السورية .. وأية حملة كانت!

في الحقيقة أنا لم أعمل داخل سوريا في مجال الإعلام على الإطلاق. لكن حدث أن تعاقدت من مقر إقامتي في العاصمة الأميركية واشنطن مع القناة الفضائية السورية لإنتاج برنامج حواري سياسي من واشنطن يكون اللبنة الأولى لتنسيق إعلامي متصل ومتكافئ بين سوريا والولايات المتحدة. كان ذلك في ربيع عام 2000.

كان المدير السابق للفضائية السورية علاء نعمة قد اكتشف أوراقا كنت قد قدمتها إلى سلفه في الإدارة عادل اليازجي، وهي عبارة عن مشروع لحلقات تلفزيونية من واشنطن حيث يتم من خلالها استقطاب الفعاليات والشخصيات والهيئات الأميركية والعربية الأميركية المعتدلة والمناصرة للحقوق العربية بعامة والسورية على وجه الخصوص.

وضعني السيد نعمة مباشرة مع الدكتور فائز الصايغ المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون آنذاك. و أنا لم أكن على معرفة شخصية بالاثنين؛ بل في الحقيقة قد ارتبت في بادئ الأمر من الاتصال الهاتفي الذي تلقيته في ذلك الوقت من نعمة وهو يعرض علي أن نباشر بهذا البرنامج على وجه العجل.

و قد تبددت ريبتي فيما بعد لما لمسته من مهنية عالية في تعامل الأطرف المعنية في هذا الشأن حيث تم توقيع عقد رسمي معي- بناء على طلبي- وتم تقديم كل التسهيلات الممكنة لبدء تصوير البرنامج الذي تعهدت لتصوير حلقة البايلوت منه على نفقتي الخاصة، على أن تُسدّد لي قيمتها لاحقا، وحملها إلى دمشق حين إنجازها.

وبالفعل هذا ما حدث، أخذت إجازة غير مدفوعة من عملي حيث كنت أدرّس اللغتين العربية والفرنسية في المعهد الدبلوماسي للغات في واشنطن. وشرعت حثيثا بالتحضير وتصوير الحلقة الأولى.
توجهت إلى دمشق حاملة معي الأشرطة التي صورت عليها مواد الحلقة الأولى لنقوم بعملية المونتاج في مبنى التلفزيون نظرا لارتفاع الكلفة الإنتاجية هنا في الولايات المتحدة.وصلت بالأشرطة إلى مبنى التلفزيون في ساعة متأخرة من مساءات الصيف الدمشقية الحارة. استقبلني نعمة في مكتبه وعرفني على من سيعملون معي لإنجاز مهمة الإنتاج.

بدأت العمل مباشرة مع مجموعة من المنتجين المحترفين والأكفاء بحق. كان يعملون في ظروف لوجستية وفنية غاية في الصعوبة. كانت الأجهزة شبه بدائية أما هم فكانوا مبدعين حقا في المناورة على ما يتوفر لهم من حد أدنى من الأجهزة الفنية التي أكل الدهر عليها وشرب؛ إلا أنهم كانوا كبارا بموهبتهم وإصرارهم على إنجاز المهمة. وقد كان العمل برفقتهم على أجهزة الإنتاج التي تعود إلى حقبة الستينات تحديا حقيقيا بالنسبة لي. في الساعة الثانية بعد منتصف الليل أخذ زملائي يتململون و أرادوا المغادرة لاستئناف العمل في اليوم التالي. فطلبت منهم أن أبقى هنا و أعمل بمفردي على الأجهزة التي ألفتها بسرعة تعادل شوقي لإنجاز الحلقة.. وهذا ما كان.

بقيت أعمل حتى الساعة السابعة صباحا. ووجدت نفسي وحيدة أجول في غرفة الكونترول للبث المباشر المطلة على ساحة الأمويين. بدت السماء شفافة وصافية في ذاك الصباح، وانتابني شعور مفعم بالقوة والرهبة حين تنبهت أني على مبعدة ضغطة زر من السيطرة (إعلاميا بالطبع) على أجواء المدينة الغارقة في ثبات صيفي عميق.
جاءني الحارس الليلي و سألني إذا كنت أشعر بالجوع: فقلت له أحضر مسبّحة الحمّص لي ولك وللحراس لنتناول فطورنا معا.

إثر يومين من العمل المتواصل مع الزملاء الفنيين توجهت إلى مكتب نعمة في الطابق الأول من مبنى التلفزيون وأنا أحمل النسخة الممنتجة من الحلقة الأولى قبل ترجمتها إلى العربية وإرسالها إلى دائرة الرقابة.

تم عرض الشريط على مجموعة من الخبراء وعلى رأسهم الدكتور صايغ و نالت الحلقة الموافقة على البث بالإجماع. هكذا قمنا بتمديد العقد لفترة ستة أشهر.
وحبن عدت إلى الولايات المتحدة باشرت على الفور بورشة عمل لإعداد حلقتين شهريا من البرنامج و تصوريهما في واشنطن ثم إرسالهما بالبريد السريع إلى دمشق لأغراض المونتاج والرقابة، ثم البث.
هنا بدأت علاقتي شبه الشفافة/ شبه الغامضة مع الإعلام السوري.

- سؤال:أنت أول من أسس لعمل دولي للتلفزيون السوري من واشنطن تجلى في البرنامج السياسي " عبر الأطلسي" الذي كنت تقومين بإعداده وتقديمه وإخراجه بميزانية متواضعة نسبيا كانت تسدد لحسابك في دمشق بالليرات السورية. والبرنامج لاقى نجاحا عربيا ودوليا ولكن تم إيقافه بشكل تعسفي نتيجة لبث إحدى حلقاته من دمشق ما قبل الدخول الأميركي إلى العراق بأسابيع. و تم على إثرها تسريح 18 موظف من العاملين في الهيئة وعلى رأسهم مدير الفضائية في ذلك الوقت والمدير العام للتلفزيون فائز صايغ فيما سمي في الصحف " مجزرة التلفزبون السوري"
اكشفي لنا عن جميع الملابسات.. من هو المسؤول؟

البقاعي:نعم. عدت إلى الولايات المتحدة وبدأت أحشد كل ما تيسر لي من إمكانات فنية وعلاقات اجتماعية لتأمين ظهور برنامج"عبر الأطلسي" بالحد الأدنى من الكلفة، والأعلى من المستوى الفني والمهني.
واستطعت خلال فترة وجيزة وعن طريق حملة العلاقات العامة التي باشرتها من دعوة وجوه بارزة في الإعلام والسياسة والأبحاث في العاصمة واشنطن ليكونوا ضيوفا على البرنامج( بلا مقابل مالي).

هكذا بدأت بوضع اللبنة الأساسية لمشروع تبادل إعلامي ناضج وندي بين الولايات المتحدة وسوريا في شبه لوبي من الساسة الأميركيين ممن لهم خبرة في الشرق الأوسط أذكر منهم السفراء والساسة: إدوارد ووكر، إدوارد بيك، ريتشارد بيكر، واندرو كيلغور جيمس إيكينز، جف ستاينبرغ، تمارا كوفمان وغيرهم عديدين.. وكانت سوريا،ولا تزال، في أمس الحاجة إلى برنامج للعلاقات العامة و حشد المؤيدين لقضاياها.

بدأ البرنامج يأخذ زخما دوليا نتيجة للجدية والمهنية في طبيعة الحوار والمواضيع المطروحة والشخصيات الضيفة. وكنت أتلقى الرسائل الإلكترونية من أوروبا و أستراليا والولايات المتحدة ومن العالم العربي ممن يتابعون الفضائية السورية. حتى أن الدكتور صايغ قد اتصل بي في أحد الأيام وقال لي أن ثلاثة وزراء كان قد التقى بهم في حفل استقبال سلطان بروناي في قصر الضيافة طلبوا منه نسخا من حوار الدبلوماسي السابق في العراق إدوارد بيك الذي أجريته معه لما ينيف على الساعة من الوقت قبيل حرب العراق.

أهمية هذا البرنامج أكده الدكتور عماد مصطفى حين زرته مؤخرا في مكتبه إثر تعيينه سفيرا لسوريا في الولايات المتحدة حين قال:" كنت قد حضرت جلسة القيادة السورية التي تم فيها اتخاذ القرار بإيقاف البرنامج واعترضت على هكذا قرار ليقيني بأننا في أشد الحاجة إلى استقطاب الأصوات المؤيدة لنا هنا في واشنطن. وهذا أهم ما قدّمه البرنامج".

في شهر تشرين الثاني من العام 2002، طلب مني الدكتور صايغ أن أقوم بتشكيل وفد إعلامي أميركي لزيارة دمشق وتعريفه بالإعلام السوري عن قرب. قمت بدعوة رئيس قسم الأخبار الدولية في محطة ABCالأميركية - وهي واحدة من أهم المحطات الوطنية الأميركية إن لم تكن الأهم. ورحّب بالدعوة وقرر التوجه إلى دمشق ولكن على نفقته الخاصة. وقال لي أن مدير قسم الشرق الأوسط للمحطة في لندن سوف ينضم إلينا في دمشق.
وهذا ما كان. اتجهت إلى دمشق - مجددا على نفقتي الخاصة- مع وعود أن يتم تسديد تكاليف إقامتي في الفندق و بطاقة الطائرة لاحقا.

استقبلت والوفد استقبالا لائقا من قبل هيئة الإذاعة والتلفزيون. وانضم إلينا العديد من المختصين بالإعلام الخارجي في وزارة الإعلام. كما قام الوفد بزيارات خاصة لوزير الإعلام آنذاك السيد عدنان عمران، والمسؤولة عن الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية في ذلك الوقت السيدة بثينة شعبان وكذلك اقترحت زيارة الصحيفة الوحيدة "الليبرالية" كما كنت قد وصفتها لهم - جريدة تشرين. وعرض الوفد فكرة التعاون الإخباري والبرامجي مع الوزارة. لكن لم تتم متابعة الأمر من الجانب السوري بسبب فوضى ما حدث لاحقا.

كان ضمن برنامج زيارة الوفد لدمشق عشاءٌ مع السفير الأميركي في حينها السيد إدوارد قطوف، حيث تعرفت عليه لأول مرة و تعرف هو تاليا على برنامجي التلفزيوني وهنأني عليه. وحين عرضت عليه فكرة إجراء الحوار معه قال لي "إني لا أجري حوارات تلفزيونية على الإطلاق، ورفضت معظم الدعوات التي وجهت إلي، لكنني سأبحث مع مستشاري في السفارة عرضك".
في اليوم التالي اتصل بي مكتب السفارة و أبلغني موافقة السفيرعلى المقابلة التي ستكون في مقر إقامته في حي الروضة بدمشق.

اتصلت على الفور بنعمة وصايغ و كانوا جدا متعاونين. وعلمت أن الإدارة تقدمت باستصدار تصريح من الجهات الأمنية لتصوير الحوار. و اشتغلت اليوم بأكمله على تحضير الأسئلة وأرسلتها بالفاكس إلى السفير من جهة، وإلى السيد نعمة من أخرى، للموافقة. في اليوم التالي وضع التلفزيون تحت تصرفي جيشا من الفنيين و الكاميرات والمخرجين لإنجاز المهمة في عصر يوم من أيام رمضان، وكان الجميع صياما، بما فيهم الفنيين العاملين معي.

تم تصوير الحلقة بسلاسة ويسر بحضور السيدتان ليزا ديبل المسؤولة عن المركز الثقافي الأميركي وسينثيا ويتسلي السكرتير الأول في السفارة.
تعهد المخرج الصديق هيثم شلبي بالاهتمام شخصيا بعملية المونتاج لأن موعد سفري عائدة إلى الولايات المتحدة كان مقررا في اليوم التالي.
غادرت دمشق وتركت في عهدة المختصين موضوع الإشراف على مونتاج ورقابة الحلقة قبل البث.

استيقظت على رنين الهاتف في ساعة مبكرة من صباح أحد الأيام بعد أسبوع على عودتي إلى واشنطن على صوت أنور الأحمد الموظف في الفضائية السورية. وأنور الأحمد، لمن يجهله، ليس بمسؤول "منتفخ" في الهيئة؛ بل هو مجرد موظف متواضع في الدرجة الوظيفية لكنه متقدم في الطموحات المهنية والأخلاقية. وقد كان سببا رئيسا من أسباب نجاح البرنامج نظرا لمهنيته العالية ورغبته غير المشروطة في خدمة الأعمال الجادة و المستنيرة. قال لي الأحمد بصوت متهدج وعميق لم أعهده في نبرته من قبل: أرجوك سيدة مرح أن توقفي كل نشاطاتك و تمتنعي عن تصوير حلقات مقبلة حتى إشعار آخر"!

كانت الساعة حوالي الرابعة صباحا. لم اعد أستطيع العودة إلى فراشي لشدة توتري. و جلست وراء شاشة الكومبيوتر لأقلب الصحف الصباحية فطالعتني في الصفحات الأولى الجرائد الرئيسية العربية عناوين مثل: مجزرة إعلامية في التلفزيون السوري"، إقالة فائز الصايغ وعلاء نعمة بسبب استضافة السفير الأميركي"، وعبر الأطلسي يطيح بمدير التلفزيون السوري"، و"الصراع بين الشرع وعمران مسلسل مستمر"..الخ.

لم يذكر أي مقال أو تحقيق سببا معقولا أو واضحا للمشكلة في الحلقة التلفزيونية التي بثت عن لقاء السفير قطوف. وتم إرجاع المشكلة إلى قصر مهنيتي، أو إلى ضحالتي الإعلامية، أو الإهمال من قبل مؤسسة الرقابة في الهيئة. أما السبب الأقرب إلى الحقيقة فقد عرفته لاحقا حين التقيت بالسفير قطوف في واشنطن بعد مغادرته لها، ومفاده أن بعض المسؤولين غضبوا من تصريح السفير حول قرار مجلس الأمن 1441التي صوتت عليه سوريا بالإيجاب. حيث أكد السفير أن بلاده لم تعط سوريا أية "تطمينات" بأنها لن تدخل العراق إذا ما تم تمرير القانون في الأمم المتحدة.

يبدو أن عين الرقيب قد انشغلت أو تشاغلت عن هذا التصريح ولم تمتد إليه بمقصها الجزّار.

بدأت من هنا الدوامة. وأصبحت أسمع الشائعات التي كان يتم ترويجها عني في دمشق ابتداء باتهامي بازدواجية المعايير مرورا بفشلي كإعلامية وانتهاء بالإشارة إلى نزوعي الغربي المشبوه.

حتى تاريخ كتابة هذه السطور لم يتسن لي الإطلاع على نسخة من الحلقة المشهودة. و حين طالبت الإدارة الجديدة، و بإلحاح، بحقي في الحصول على نسخة كنت أواجه بعدة أجوبة غامضة منها أن الأشرطة تم إتلافها، أو أنها منعت من التداول، وفي أفضل الأحوال كان المدير الجديد يتهرب من تلقي مكالماتي بحجج لا يجهلها العارف بالشأن السوري.

أقول لك يا بهية باني أملك الجنسية الأميركية منذ عشر سنوات، وأنا لست من فئة الحالمين بالمناصب والوجاهات، ولا أصبو للعودة إلى سوريا والإقامة بشكل دائم في غمرة الضبابية السياسية الني تلف البلاد، وأملك عملا و دخلا مرموقا في البلد الذي اخترتها لإقامتي والتي منحتنني حرية القول والفعل معا. لكن قبولي للعمل هذا البرنامج كان مردّه إلى تعلقي الشديد بنصرة الحق والقضايا المعلقة في وطني الأم سوريا. وهذا ما لم يفعله للأسف ممثلو بلدي هنا من دبلوماسيين أو إعلاميين.
أما المسؤول عن تلك البلبلة، وبعيدا عن توجيه أصابع الاتهام لأشخاص بعينهم، فأنا أقول إنها سياسات الإقصاء والتخوين و كم الأفواه والعقول، واستلاب الرأي، والمحسوبيات و الشللية، والتسيب الإداري، وتغييب الضمير المهني في حمأة فوضى الفساد والرشوة الطافحة في إدارات الدولة. كلها تجتمع لتشكل أعراض المشكلة وإبرها السامة.

أنا لا أفهم كيف يبلغ ميزانية هيئة الإذاعة والتلفزيون المليار ليرة سورية وليس في مبناها العتيد مرحاض للعاملين فيها بمواصفات إنسانية (أي فيه ماء وقطعة صابون) ولن أقول علبة محارم ورقية حتى لا أتهم بالبرجوازية.! بل إنني في تلك الليلة التي قضيتها وراء آلات الإنتاج فوجئت في الساعة السادة صباحا بطوفان الماء في الطابق الذي أعمل فيه لعدة سنتمرات غطت جزءا من الأجهزة التي يتناوب عليها الفنيون في برنامج عمل غير منظم ومتضارب المواعيد في أغلب الحيان.

- سؤال:هل برأيك الحكومة السورية على استعداد لمراجعة الثغرات الإعلامية وإعادة قراءة الأوراق بشكل جدي وموضوعي؟!
وهل باعتقادك يمكن رفع شعار الرجل المناسب في المكان المناسب في الإعلام السوري؟
أريد قراءة للمشكلة وقراءة للحل، من وجهة نظرك:

البقاعي:قال لي رئيس المؤسسة الإعلامية الأميركية التي أعمل فيها في واشنطن- وهو أميركي أيضا- حين قرأ حوار الرئيس بشار الأسد وزوجته في صحيفة النيويورك تايمز الشهيرة: مرح! يبدو الزوجان شابين واعدين. انظري إلى السيدة أسد يبدو أنها من الجيل الذي سيحمل التغيير الذي تتحدثين عنه باستمرار لسوريا. هززت برأسي وقلت: يا ليت!
نعم. أتمنى على الإدارة السورية أن تعيد قراءة أوراق الماضي لتخلص إلى صيغة تتجاوز معها زلاتها وتسير بسوريا لتدخل بها القرن الحادي والعشرين.
في إحدى زياراتي إلى دمشق ومن الأشخاص التي لا تستوي إقامتي إذا لم أزره كان المرحوم الفنان فاتح المدرس. قرأت مرة عبارة كتبها على حائط مرسمه ـ المرسم الذي كان على وزارة ثقافة رشيدة أن تحيله إلى متحف للفن الوطني وأن تحتفي بتاريخ حقبة فنية غنية ورائدة في الفن السوري قبل أن يُغيّب معالمه طلاء الجدران الأبيض السقيم ـ قرأت العبارة التالية: "بإمكان رجل واحد أن يخرج أمة من التاريخ". وأنا أقول اليوم: وبإمكان "رجل" أن يعيدها إلى دورة التاريخ من جديد.
نعم أنا أرنو إلى اليوم الذي يستعيد فيه الإعلام عافيته، ويركل كرسي العجلات المتحرك الذي كان ومازال يتعثر عليه بين ردهات قامات الإعلام الإقليمي والعالمي العالية. حين قابلت وزير الإعلام السابق عدنان عمران في زيارتي الأخيرة إلى دمشق قلت له:"هنا تقع وزارة الحرب الحقيقية. فتأهبوا للمعركة. نحن جندكم المجندة". و حين قابلته مؤخرا في مؤتمر في قرطبة قال لي: "إن الشاشة السورية قد خسرت ضيوفك من أصدقاء سوريا، وخسرتكِ".

- سؤال:لماذا تمت محاربة فايز الصايغ في التلفزيون وهو كما يقال شخص جريء ومسؤول؟ ولماذا تتم محاربته الآن وهو صاحب قرار؟

البقاعي:معرفتي بالدكتور صايغ محدودة بعدة زيارات رسمية في مكتبه بغرض تصريف شؤون الإدارية والمالية المتعلقة ببرنامج"عبر الأطلسي". أستطيع أن أقول أنني عرفت فيه القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة المتقدمة((Advent guard وكذا شفافية الطرح، والرغبة الحقيقية في تحديث الخطاب الإعلامي السوري.
وأنا أتساءل إذا كانت نزاهته المالية في الميزان فأين يد العدالة لتحاسب كل " الآخرين" المتهمين بالفساد المالي والإداري ؟!

المطلوب من أنصار التحديث في سوريا أن يكون لديهم الجراءة لمواجهات المستجدات المتسارعة على الساحتين العربية والعالمية.عليهم أن يباشروا في إعادة استقطاب الأدمغة السورية المهاجرة التي سيسهم جمع عقدها المنفرط في صياغة المستقبل السوري المنشود.

العديد من الوطنيين السوريين يقبعون وراء البحار بانتظار العودة ليفعموا أنفاسهم بروائح التوابل العابقة في حي البزورية الشهير في دمشق. فاروق مردم بك واحد منهم، وأدونيس، وكذا نزار قباني وجميل حتمل ( قبل أن يخذلهما الموت في المغترب)!

نهاية أهدي ظلال العرائش القابعة ما فوق مقهى النوفرة حيث أحتسي نرجيلتي الدمشقية، أهديها هذه القصيدة ففيها نسغ من دمي:

آه

فرَّقتنا الأحابيل
أيها الطغاة
سقط بؤبؤ الوقت
في قفَّاز المنفى
واستعار الثلجُ من دمي
قبَّعةَ الغانية

فرَّقتنا الطبول
يا قلبي الأرمل
راياتك بيضٌ
والعنقود ولد

أحوِّمُ في الاستعارات
والرمل باب المدينة
آهٍ يا بكارة الاختلاس
آهٍ ياخفْقََه
ذاك البلد.

مرح البقاعي

ليست هناك تعليقات: