الثلاثاء، شعبان ١٦، ١٤٢٦

في المديح السلامة وفي نقد الحكومة الندامة

هائل اليوسفي محام معروف كثيرا في سورية لا لألمعيته، بل لأنه كاتب برنامج إذاعي بوليسي شعبي مشهور جدا اسمه حكم العدالة. وفي يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وما بين الواحدة والنصف والثانية والربع ظهرا، ما من مكرو باص أو سرفيس أو صاحب بسطة ولا ربة منزل أو صاحب دكان إلا ويتابع هذا البرنامج الذي يفوق قصص أرسين لوبين وشارلوك هولمز شعبية.

وفي مقاله المنشور في كلنا شركاء بتاريخ 18-9-2005 وهو بعنوان "هل يلفظ الفساد أنفاسه الأخيرة...!؟" (لاحظوا هذا العنوان المثير، مثل مواضيع برنامجه الإذاعي) كال صاحب حكم العدالة المديح الكبير لوزير العدل على حملته المناهضة للفساد واعتبر أنه "أول وزير للعدل ومنذ عدة عقود يمارس صلاحياته في مكافحة الفساد وعلى هذا النحو الجريء" ولا أدري إذا كان في ذلك إشارة لما جرى مؤخرا حينما تم توقيف رئيس محكمة النقض السابق ومعاونه - محمود سليمان وعلي الآغا - بعد مسيرة طويلة لهما في سلك القضاء دامت أربعين عاما كان مشهودا لهما في كل مكان خدما فيه بالاستقامة والشرف والأخلاق. (وللعلم هما وقعا على قرار سليم مائة في المائة يشهد له كل من يفهم بالقانون، وذلك إلى جانب خمسة قضاة آخرين – هم سبعة كامل أعضاء هيئة محكمة النقض في دعاوى المخاصمة - لكن لم يجر توقيف سوى هذين القاضيين، فهل من أحد من جهابذة التطبيل والتزمير يمكن له أن يعلل لنا ذلك لنقتنع معه؟).

لست مع هذا الوزير ضد ذاك الوزير، لكن يبدو أن حجم الفساد من حولنا، وخصوصا في السلطة القضائية هو أكبر من النوايا الحسنة لبعض الطيبين.
فمن له قضية في المحاكم في سورية يعرف جيدا أن نظام التقاضي قد يكون هو الأسوأ والأبطأ من نوعه في العالم على الإطلاق.
الرشوة على أشدها، بل وهي في ازدياد، القضاة يرتشون علنا كأي موظف صغير، أما عن كتاب المحاكم وموظفي دواوينها ومحضريها فعنهم سكتة.
يقف المحامي ذليلا أمام الموظف والمستخدم ويدفع له مائة ليرة كي يخرج له إضبارة من الخزانة أو ليعطيه موعدا أو ليستخرج له صورة عن وثيقة من وثائق الدعوى.
وفي محكمة النقض، وفي المكاتب المجاورة لمكتب وزير العدل يستحيل استخراج قرار أو نسخه أو تحريك الإضبارة قيد أنملة إلا بدفعات هي مئات الليرات وأحيانا آلاف، هذا فقط لنسخ القرار وإعادة الإضبارة لمصدرها ولا نتكلم عن عشرات الآلاف ومئات الآلاف لاستصدار القرار أو لتجاوز الدور الذي قد يسعى إليه المتخاصمون.
مأساة السلطة القضائية في سورية بدأت عام 1965 عندما تمت شرعنه تسليط السلطة التنفيذية من خلال وزير العدل على السلطة القضائية حينما تمت تسميته نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى والذي هو رئيس الجمهورية، ونظرا لانشغال رئيس الجمهورية عادة بقضايا سياسية كبرى، فإن ا لمتابع والمتسلط على السلطة القضائية مباشرة عادة ما يكون وزير العدل الذي هو من السلطة التنفيذية، وفي ذلك تناقض مع مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور السوري نفسه.
القاضي في بلادنا موظف عادي جدا ( بعضهم مرفوض شكلا ) وليس كما قال عنهم السنهوري بأنهم "نخبة من رجال الأمة اشرأبت نفوسهم بحب العدل"، بل يتم اختيارهم من الناس العاديين جدا، من يحبون وظائفهم وما تجره عليهم من منافع ومزايا، مشروعة كانت أم غير مشروعة، أكثر مما يحبون العدل والوطن.
في مقاله المذكور أعلاه يشيد المحامي هائل اليوسفي بالخطوات المتخذة حتى الآن على طريق إصلاح القضاء، لكنه هو يعرف أن ما كتبه غير مقنع، لكنه فعل ذلك فقط لينال حب وعطف وزير العدل، وهذا بعيد عنه، لأن السيد وزير العدل أكبر من ذلك بكثير، ولا شك بأن سيادة الوزير يحب من يوجه له النقد لكي يمكنه من الإصلاح ومتابعة الخطأ وذلك تماشيا مع المقولة الخالدة للرئيس الراحل "لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ ولا أن يتستر عن العيوب والنواقص" لكن للأسف، وفي حضور هذه الجوقة من المطبلين والمزمرين والمداحين بقيت تلك المقولة حبرا على ورق في أغلب الأحيان.
السقف في بلادنا أعلى من قامات الناس التي تكتب، فهم مثل بطل مقالنا يظنون "أن في المديح السلامة وفي نقد الحكومة الندامة" مع أن تاريخ سورية الحديث ليس على هذه الصورة التي يصورها البعض بأنه من يفتح فمه يضيع.
أبدا لم يكن الأمر كذلك، كان في سورية بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس ونزار قباني ومحمد الماغوط ولم يسجن أحد منه لنقد أو لمقال أو قصيدة أو رواية، بل نالوا رعاية كبيرة من الدولة ولا تزال الدولة توزع على من هو حيا منهم الأوسمة. وحتى اليوم لا تزال نخبة من الناس الشرفاء في سورية يكتبون بكل حرية على مواقع الإنترنت وفي بعض الصحف بما فيها الصحف المحلية التي نطمح أن تكون على مستوى أعلى مما هي عليه ولم يعترض لهم أحد.
يقول بريخت "أحب من النقد ما يظهر لي عيوبي ويأتي بأكبر الأدلة على ذلك" وهذا هو لسان حال كل إنسان رجل دولة في سورية.
بناء سورية الحديثة وإصلاح ما فسد فيها يتطلب نقادا وليس مداحين

المحامي ناصر الماغوط : ( كلنا شركاء ) 20/9/2005

ليست هناك تعليقات: