الأحد، شعبان ٢١، ١٤٢٦

الإصلاح الاقتصادي السليم يتطلب إصلاحاً سياسياً

إبان الحديث المسهب عن الإصلاح الإداري في السنوات السابقة، أطلقنا كما العديد من الغيورين نداءات تؤكد "أنّ أي إصلاح إداري لن يصل إلى مبتغاه، إن لم يترافق مع الإصلاح السياسي"... ولم تلق تلك النداءات آذاناً صاغية... وتمت والاستعانة بخبراء محليين و أجانب (فرنسيين) لوضع الخطط والبرامج للقيام بذلك الإصلاح، وهدر الكثير من المال والوقت والآمال... دون جدوى، وبدلاً من إجراء حساب لتحديد من يتحمل مسؤولية ذلك الهدر في المال، والطاقات، والمقدرات، والزمن، الذي يتكبده الوطن والشعب نتيجة تجاهل الحقائق، نادى البعض مجدداً بضرورة الاستعانة بخبراء (ماليزيين) لوضع خطط في الإصلاح الإداري، دون أي حديث عن الإصلاح السياسي!!!؟؟؟
ومع خفوت الحديث عن الإصلاح الإداري الذي (لم يصل إلى مبتغاه) حسب اعتراف الجميع، دون محاسبة أحد عن ذلك الهدر الذي أنفق بحجته... يجري الحديث بنبرة عالية حول الإصلاح الاقتصادي، دون أي ذكر للإصلاح السياسي!!!... وهنا الطامة الكبرى.
ومع تأكيدنا على أنّ أحد أسباب فشل الإصلاح الإداري هو عدم ترافقه مع إصلاح سياسي، نؤكد أنّ مصير هكذا إصلاح اقتصادي لن يكون أفضل.
هل يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة؟!
إنّ تلامذة السنوات الأولى في دراسة علم الاقتصاد يعلمون حقيقة الترابط بين الاقتصاد والسياسة... فالسياسة هي ركن أساسي من أركان الاقتصاد السياسي.. ويردد المفكرون والمهتمون منذ قرون مقولة أن "السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد"، حتى أصبحت بديهية تلهج بها ربات المنازل... في الوقت الذي يصرّ فيه البعض ـ ربما لغاية في نفس يعقوب ـ على تجاهل العلاقة بين السياسة والاقتصاد! فلماذا؟
قد يكون خوف البنية المهيمنة من الحرية والديموقراطية ومن المستقبل، وذلك لأسباب متعددة ومتنوعة، هو أحد أسباب إصرارها على استبعاد أي إصلاح سياسي... ومع ذلك وعند البحث عن أسباب تجاهل الحديث عن الإصلاح السياسي، المترافق مع الإصلاح الاقتصادي، لا بد من معرفة من سيخدم هذا الإصلاح الاقتصادي، ومن يوجهه، وموقف مختلف القوى والطبقات من مسألة علاقة الاقتصاد بالسياسة...
لا نأتي بجديد عندما نقول: إنّ هدف السياسي يعكس إرادة ورغبة طبقة أو جماعة ما لاكتساب والسيطرة على شيء ما، بما في ذلك السلطة، والدفاع عن تلك المكاسب والحفاظ عليها، وتعزيز تلك السيطرة بإيهام المجتمع وكأنّها من نتاج نظام طبيعي أو إلهي. وتتنوع وسائل الوصول إلى المصالح والسلطة، من اقتصادية، أو تنظيمية، أو عسكرية، أو وسائل الوصول إلى المعلومات، وسبل معالجتها ونقلها، أو بالتلاعب بوعي المجتمع في حدود معينة وتوجيهه.
من المعروف تاريخياً أن البرجوازية تستخدم أساليب التضليل الفكري المغلف بالشعارات الديموقراطية، للوصول إلى أهدافها، دون أن تواجه مقاومة اقتصادية وسياسية. وتستخدم لهذه الغاية لغة سياسية، تقدم من خلالها قيماً وهمية، يتلقاها الكادحون بوصفها مثلاً عليا، ومبادئ راسخة تشكل القاعدة المطلوبة للمجتمع العادل. فتزدهر التصريحات الطنانة في البرلمانات، والمقالات الفارغة في الصحف، حول المستقبل الوضاء، وتنتشر الشعارات البراقة، التي تداعب المشاعر مثل: "دولة الرفاه والمجد"...الخ لخلق وعي اجتماعي مضلل...
ولما كانت بعض السياسات الاقتصادية التي تخدم مصالح الفئات المستغلة تقود إلى ردود أفعال وتشكل صدىً سلبياً لدى المضطهدين، لذلك تضع الطبقة السائدة منظومة من الأهداف، وتحاول فرضها، وتصويرها وكأنّها لخدمة الجماهير الشعبية المضللة. ولا تتورع عن استخدام سلطة الدولة لتحقيق مصالحها الطبقية، والدفاع عنها... وفي هذا السياق يبذل مفكرو الرأسمالية جهوداً حثيثة لفصل العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، ولا يكتفون بكسائها بأقنعة مموهة، بل ويجهدون لإنكارها أيضاً. في الوقت الذي تعمل فيه الاحتكارات جاهدة لامتلاك القوة السياسية، مستندة على قوتها الاقتصادية، واستغلالها لتحقق مكاسب جيدة لها. ويتعمد مفكرو الرأسمالية عندما يتحدثون عن الاقتصاد، لأسباب تضليلية تعكس مصالح البرجوازية الخاصة، استعمال لغة العموميات غير المحددة... المليئة بالكلمات متعددة الدلالات... ويبقى المجال الاقتصادي أهم المجالات العملية الذي تظهر فيه حقيقة النفاق الرأسمالي، أكبر مثال وبرهان على ذلك الجملة الشهيرة، التي تلخص نشاط البرجوازية المالي والصناعي؛ ألا وهي: "ما يناسب روكفلر، يناسب الولايات المتحدة الأمريكية". تصور البرجوازية نشاطها وكأ نّه يخدم الشعب والرفاه والحرية والديموقراطية وليس مصالحها الخاصة... إنّها تستغل كافة السبل المتاحة وخاصة وسائل الإعلام لنشر المزاعم والأيدولوجيا التي تفصل بين نشاطها الاقتصادي وبين السياسة، خاصة في تلك الحالات التي يتعارض نشاطها الاقتصادي مع مصالح أغلبية أبناء المجتمع... وتكثف نهجها التضليلي للتأثير في الرأي العام وغرس خرافة فصل الاقتصاد عن السياسة في الوعي الاجتماعي.
تبين دراسة التجربة التاريخية للأنظمة الرأسمالية أنّه ونظراً لما يستدعي مفهوم "السوق الحرة" من عدم ثقة لدى أغلبية أبناء المجتمع، ولربط أغلبية الكادحين والمنتجين هذا المفهوم باستغلال الرأسماليين لهم، سعياً منهم لتحقيق أعلى حد من الربح، فقد تم الاستعاضة عن هذا المفهوم بمفاهيم أكثر قبولاً مثل "الشراكة الاجتماعية"، "دولة الرفاه"، "اقتصاد السوق الاجتماعي"، وغيرها... السؤال الذي يفرض نفسه، والذي تترك الإجابة عليه آثاراً كبيرة على تطور المجتمع، هو: ما مدلول هذه المفاهيم؟ بالأحرى هل ما يفهمه ويتصوره العمال والفلاحون والمنتجون من هذه المفاهيم، هو ما يفهمه ويتصوره البرجوازيون ورجال الأعمال منها؟!
إذا أردنا لبحثنا أن يكون أكثر دقة وتحديداً نعود إلى وضع الأنظمة التي تدعو إلى الإصلاح الاقتصادي متجاهلة الإصلاح السياسي، متسائلين عن مستقبل هذا الإصلاح وعن الطبقات والفئات التي سيخدمها. علماً بأنّ بحثنا سيبقى ناقصاً ومبتوراً نظراً للأجواء التي يجري فيها ـ في بلدان تفرض عليها حالة موات إجباري في أوائل القرن الواحد والعشرين ـ، تلك الأجواء الخاصة التي تحد من إمكانية إجراء البحث العلمي السليم، الذي حدد أبو علي الحسن بن الهيثم (965-1039) أهم أسسه منذ عشرة قرون، والتي تتلخص في العالمية، والجماعية، والتجرد عن الهوى، والنقد والشك المنظم، فضلاً عن حرية وسهولة الحصول على المعلومات، وأنىّ لنا من إمكانية توفر هذه الأسس... وعلى الرغم من ذلك تجدنا ملزمين في البحث في الأمور التي تخطط لنا ولشعوبنا... أو على الأقل الدعوة لمناقشة هذه المسائل المصيرية... آملين أن نكون قد بينا الجهة المستفيدة من فصل السياسة عن الاقتصاد...
نرى واجباً شكر كل الذين يبذلون جهوداً على طريق الإصلاح الاقتصادي، ونقدر لهم غيرتهم على المصلحة الوطنية وسعيهم لإخراج البلاد من الأزمات التي تعيشها، وفي الوقت نفسه نرجو أن يتسع صدرهم للنظرة النقدية، وسماع الرأي الآخر...
إنّ الدعوة للإصلاح الاقتصادي بمعزل عن الإصلاح السياسي، تعني أنّ جميع المسائل المطروحة ستتم مناقشتها في الأجواء السابقة نفسها، ووفق الآليات السياسية السابقة لعملية الإصلاح، التي تطغى عليها قوانين حالة الطوارئ التي بينت التجربة أنّها تستعمل لكم أفواه الأحرار وتحمي الفساد والمفسدين، فضلاً عن أنّ الإصلاح سيتم في الظروف والشروط السياسية والدستورية والقانونية السابقة له، بالتالي فهو سيخدم الفئات والطبقات المهيمنة والمستفيدة من البنية السابقة، هكذا تسد أية أفق لهذا الإصلاح، لأنّ الظروف التي يحصل فيها تتناقض مع أسس الحياة الجديدة التي يتطلبها...
ولمّا كان النهج الاقتصادي الذي يتم اعتماده هو بناء "اقتصاد السوق الاجتماعي"، فسيترك هذا النهج آثاره على كافة شرائح المجتمع... وكل فئة ستحاول الاستفادة من هذا النهج لتلبية مصالحها، ولن تنعدم التناقضات على الرغم من تدخل الدولة...
لا أعتقد أنّ مهتماً عاقلاً بالشأن الاقتصادي يستطيع، في الظروف الدولية السائدة في هذه المرحلة، الدعوة لنهج سياسة اقتصادية لا تنسجم مع متطلبات هذه المرحلة... ويبقى "اقتصاد السوق الاجتماعي" أهون التسميات على تجرع معطيات هذه المرحلة... ولكن هذا النهج يتطلب تأمين أجواء سياسية سليمة متكافئة للجميع، وخاصة للمنتجين والكادحين، كي يستطيعوا أن يدافعوا عن مصالحهم، ولتحقيق عملية التقدم الاجتماعي... ومن المعروف أن المناخ السياسي السليم لهذا التطور هو الديموقراطية... إن لم تتوفر الأجواء الديموقراطية الصحيحة والسليمة التي تسمح بالتعددية السياسية وحرية تشكل الأحزاب على أسس وطنية وحرية المعارضة والصحافة والإضراب والتظاهر، ولمؤسسات المجتمع المدني أن تتفتح، لن يستطيع المنتجون والكادحون الدفاع عن مصالحهم، وستبقى مسيرة التطور والتقدم الاجتماعي عرجاء... بالتالي لا بد من إعادة الاعتبار إلى علاقة الاقتصاد بالسياسة، لأنّ فصل الاقتصاد عن السياسة يشوه عملية التطور ويخدم بالدرجة الأولى الفئات المهيمنة...
في ظل الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادي المبتور، نتيجة عدم ترافقه بإصلاح سياسي، تجري في السنوات الأخيرة عملية إدخال مفاهيم ومصطلحات اقتصادية هدفها تضليل الرأي العام والتأثير في الوعي الاجتماعي، مثل مفهوم خط الفقر للناس الذين لا يموتون جوعاً، فضلاً على القيام بعمليات إحصائية مفبركة تعطي النتائج التي يريدها الدارس، ومنها تلك التي توصلت إلى أنّ نسبة من يعيشون دون خط الفقر 9% في عام 2004 على اعتبار أن كل مواطن يزيد دخله عن 1331 ل.س، أي أقل من دولار واحد يومياً، لن يموت من الجوع... هكذا يجري الإيهام بأنّ غالبية المجتمع تعيش فوق خط الفقر، أي في حالة تفوق الكثير من البلدان، دون تسليط الضوء على حجم البطالة، وخطأ الأرقام المفبركة، وعلى تلك الفئة الطفيلية التي تشكل حوالي 5% من السكان وتستأثر بنسبة 90% من الدخل الوطني... فضلاً عن إغلاق وملاحقة أي منبر صحفي يشير إلى حجم ملكية الفاسدين من الفئات المهيمنة ومصادرها، وقمع كل من تسول له نفسه الإشارة إلى مصدر ثروات هؤلاء، نتيجة عدم وجود المناخ السياسي الديموقراطي السليم، الذي يسمح بالإشارة إلى مكامن الضعف والفساد... ومن الخطورة بمكان استغلال المنظمات الدولية كبعض منظمات الأمم المتحدة وإقحامها في هذه الإحصائيات، التي تذكرنا بالإحصائيات التي كانت تجري في دول المعسكر (الاشتراكي) سابقاً، والتي كانت تصل إلى نتيجة مفادها أنّ مستوى حياة الناس في أفقر دولة (اشتراكية) يفوق مستوى معيشة السكان في الدول الغربية، كالفرنسيين على سبيل المثال...
ونتيجة لغياب الأجواء السياسية الديموقراطية السليمة، تعلن هذه الإحصائيات، وتصور وكأنّه حقيقية، دون أن تجد مراكز أبحاث مستقلة تدحضها... بل تجد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والتقدمية تفغر فاهها مؤيدة لها... أجل إنّ الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والتقدمية الرسمية تتجاهل أيضاً ضرورة الدعوة إلى الإصلاح السياسي... وإن دلّ هذا الأمر، الملفت للانتباه، على شيء فهو يدل على إفلاس تلك الأحزاب، وخيانتها لفكرها، وللجماهير التي تزعم الدفاع عن مصالحها... وينعكس ذلك في انكفاء الجماهير عنها، وزيادة عزلتها، فضلاً عن أن ذلك سيحد من مستقبلها...
إنّ مفهوم "اقتصاد السوق الاجتماعي" يحمل في طياته مدلولات متعددة ومتباينة... فهو يطبق في بلدان أوربا الغربية الرأسمالية، بالتالي هو اقتصاد رأسمالي، مع إعطاء الدولة هامش للحد من بؤس الطبقات المضطهدة... وهذا الدور لا تستطيع حتى الدولة الرأسمالية المتطورة وذات التقاليد العريقة، وحدها القيام به، بل هي تحتاج، وتساعدها منظومة وبنية اجتماعية ديموقراطية، ومؤسسات مجتمع مدني تتيح لأبناء المجتمع المساهمة بدورهم في هذه المهمة الإنسانية الهامة... ففي "اقتصاد السوق الاجتماعي" تسود العلاقات الرأسمالية، ويتمتع رأس المال بحرية الحركة والاستثمار، ومن الضروري أن تترافق حرية رأس المال مع حرية المنتجين والكادحين، وهذا يتطلب بدوره بنية سياسية ديموقراطية جديدة تنسجم مع متطلبات هذا التطور، أي تتطلب إصلاحاً سياسياً...
الذي نسمعه حتى الآن هو الدعوة لحرية رأس المال، بدعوى جذب الرساميل وزيادة مجالات الاستثمار، وهذا أمر ليس بالخاطئ في الظروف الحالية، بل هو أمر ضروري، إنما نرى فيه نقصاً، وتجريداً للمنتجين من سلاح الدفاع عن مصالحهم... قد يقول البعض، ها هي الصين (الاشتراكية) تفتح الباب للاستثمارات الرأسمالية، وتبقي على البنية السياسية السابقة (الاشتراكية)، وهنا لا يسعنا إلاّ أن نقول إنّه، أولاً، لا مجال للمقارنة، ولقد سئمنا من نقل التجارب ودفعنا ثمنها غالياً، هذا من ناحية، وثانياً، هل هناك دراسات حول درجة الاستغلال والفساد هناك؟ حيث يعشش الفساد لا مجال للحديث عن العدالة والاشتراكية! هل يكفي أن ننادي (حرية، عدالة، مساواة، اشتراكية، شيوعية) حتى يتحقق ذلك؟؟!! ألا تدخل مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة في دساتير أكثر الأنظمة ديكتاتورية؟! نحن لا نصدر أحكاماً، ونتمنى للصين التطور والازدهار، وأن تتبوأ أفضل موقع في العالم، وأن يعيش شعبها الصديق أفضل حياة، لكننا نقول، في الوقت نفسه، المنهج العلمي يتطلب النقد، لا التسليم والنقل...
يتطلب الإصلاح الاقتصادي السليم مشاركة فعالة من قبل مختلف شرائح المجتمع، لن يتم أي إصلاح دون فعالية حقيقية من قوة الإنتاج الأولى وعنصرها الأساسي ألا وهي الإنسان، ما هو موقع الإنسان في منظومة هذا الإصلاح؟! كي يقوم عنصر الإنتاج الرئيسي بمهامه من الضروري تأمين ظروف ومناخ ملائمين له، كي يعطي ويتطور ويتجدد، ويتزود باستمرار بالمعرفة والوعي، ووسائل الدفاع عن مصالحه، وهل يمكن الوصول إلى ذلك دون إصلاح سياسي؟ تقاس فعالية أي إصلاح بمدى خدمته للمجتمع وتطوره ورقي أبنائه، وتلبيته لمتطلبات التقدم الاجتماعي، فضلاً عن ضرورة بذل كل الجهود لتلافي ومعالجة أي نوع من أنواع الانقسامات والنزاعات التناحرية، بما فيها التناقضات التناحرية الطبقية في المجتمع... ويبقى الدينامو والمحرك الرئيسي لأي إصلاح إداري أو اقتصادي سليم، هو الإصلاح السياسي الديموقراطي الذي يلبي متطلبات إنسانية الإنسان وحريته وتقدمه الاجتماعي.

المهندس شاهر أحمد نصر: ( كلنا شركاء ) 25/9/2005

ليست هناك تعليقات: