الثلاثاء، شعبان ٢٣، ١٤٢٦

المواطنة أولا المواطنة أو.... لا

لا أعتقد أننا بحاجة إلى إيراد التعريفات العديدة للمواطنة فهي بالعشرات، وسأفترض أنها معروفة، ولكني أعترف بانحيازي إلى تعريف علم الاجتماع للمواطنة في المجتمع الحديث بصفتي اعمل في هذا الحقل، وباعتبارنا، كما يفترض، أننا نعيش في مجتمع حديث، ونحاول تعزيز بناء الدولة الحديثة من جهة، ولما للأخذ بهذا التعريف من عواقب هامة على صعيدي المفهوم والواقع الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى.

وفي علم الاجتماع يمكن تعريف المواطنة في المجتمع الحديث نموذجيا (أي كنموذج نظري) على أنها علاقة اجتماعية تقوم بين الأفراد والمجتمع السياسي (الدولة)، حيث تقدم الدولة الحماية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للأفراد، عن طريق القانون والدستور الذي يساوي بين الأفراد ككيانات بشرية طبيعية، ويقدم الأفراد الولاء للدولة ويلجؤون إلى قانونها للحصول على حقوقهم. ومن مميزات هذا التعريف انه بالإضافة إلى كونه نمطياً من الناحية النظرية فهو في الوقت نفسه إجرائي منهجي يتيح دراسة المواطنة وقياسها وتحديد مستوياتها والتنبؤ بأبعادها وآفاقها وتقييم وتقويم أدائها في أي مجتمع. ‏

فمن الواضح في هذا التعريف أنه يتضمن آلية التعاقد (العقد الاجتماعي) فحين يفترض أن تكون الحكومة التي تسير الدولة هي المسؤولة عن ترسيخ الشعور بالمواطنة، فإنها إذا أخلت بشروط العقد، أي إذا لم تؤمن الحماية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأفراد ولم تساو بينهم عمليا أمام القانون، كان من الطبيعي أن يخف إحساس الأفراد بشعور المواطنة والولاء لقانون المجتمع ـ الدولة التي يعيشون في ظهرانيها، وأن يبحثوا عن مرجعية أخرى تحميهم، أو تقدم لهم شعورا ولو كان وهميا بهذه الحماية، كالعودة إلى الارتباط بالجذور الدينية أو الطائفية والعائلية والقبلية والعرقية والإقليمية. ولتوضيح ما هو واضح فيما نرمي إليه، دعونا نقوم بتمرين بسيط بواسطة طرح مثل الأسئلة التالية: ‏

- ماذا يفعل المواطن الذي يتقدم لمسابقة انتقاء عمال أو موظفين حين يجد أن المواطن الآخر الأقل كفاءة أو الأقل تمتعا بشروط المسابقة قد قبل وهو غير مقبول؟ بأي جهة انتماء يستنجد وبماذا سيشعر؟ ‏

ـ ماذا يفعل أبناء المنطقة الإقليمية من الوطن عندما يشعرون بالغبن من الخدمات التنموية للدولة في منطقتهم مقارنة بمناطق أخرى من البلاد؟ ‏

ـ ما نوع الانتماء الذي يشعر الناس به أو الذي سينمو لديهم، والى أين يتوجهون باختياراتهم، عندما يجدون القوائم الانتخابية مهيأة على أساس الطائفة أو العشيرة أو القبيلة، ولو كانت باسم أحزاب ومنظمات وقنوات حديثة، أو عندما يصر المرشح على الإيحاء بعشيرته أو قبيلته في إعلانه الانتخابي؟ ‏

ـ ما نوع الانتماء والشعور الذي سيستمر لدى الناس المهاجرين إلى ضواحي المدن الكبرى وأطواق الفقر عندما لا يجدون العمل ولا يتمتعون بالخدمات التي يتمتع بها مواطنوهم في المدينة نفسها؟ وما دلالة تجمعهم على أسس طائفية أو مناطقية أو عرقية؟ ‏

ـ ما شعور المختص الجدير العالي الأداء والكفاءة عندما يجد نفسه مستبعدا لأنه ليس خبيرا ولماحا بالتملق والانبطاح والتسلق والزيارات والمعايدات في الوقت المعلوم؟ ‏

ـ بماذا سيشعر المثقف الحر النابه الناقد المتوقد الذهن الواسع الأفق عندما يشاهد المدعين وأنصاف المثقفين ـ أنصاف الجهلة هم الأعلون؟ ‏

ـ بماذا سيشعر الأكاديمي القدير علميا وثقافيا، وماذا سيقول، وبماذا يهجس ويفكر عندما يجد نفسه مضطرا للدفاع عن نفسه أمام إدارته بسبب "تقرير" واضح التهافت، فيذهب العلم ويبقى التهافت والمتهافت؟ ‏

ـ .......الخ ‏

إن الفرد الذي يلمس أنه ليس في حماية القانون المدني للدولة، وأن هذا القانون مفتح عليه وأعمى على غيره، يظلمه ويحابي أصحاب النفوذ، لن يشعر بالأمن ولا بثقافة الانتماء إلى الدولة الوطن وسيبحث عن أي جذر آخر للارتباط والانتماء يؤمن له الشعور بالحماية والأمن والانتماء. ‏

إن المشترك والمهم في مفهوم المواطنة هو ما يشير إلى مساواة جميع الأفراد في المجتمع الدولة أمام القانون والدستور وفرص العمل والعيش الحر الكريم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والعرقية والجنسية والطبقية...الخ. ويتضمن هذا التعريف جميع الميزات الأساسية للعقد الاجتماعي وأي إخلال بشروط هذا العقد يترتب عليه اختلال في الاندماج الوطني وتراجع في علاقة المواطنة وانخفاض في المستوى المؤسساتي للدولة. ‏

إن مبدأ المواطنة نظريا هو مبدأ أساسي في الدولة الحديثة، وسنجد النص عليه موجودا في معظم وربما في جميع الدساتير والقوانين في البلدان اليوم، ولكن المهم هو الانتقال من الواقع إلى الفعل وتلك هي المشكلة، وذلك هو التحدي، في تعزيز الشعور بالمواطنة، وسأزعم أن أهم ما يمكن العمل عليه لترسيخ حالة المواطنة هو عدم التساهل على الإطلاق في تطبيق المعايير المؤسساتية بالفعل، والابتعاد عن الفكرة الانطباعية للمدير القوي العادل واستبدالها بفكرة المدير المزود بدستور المؤسسة، إن المواطنة هي جوهر البناء الديمقراطي والضامن القوي لبنياته ومؤسساته. ‏

إن أهم مهمة يفترض بنا تحقيقها هي تعميق الشعور بالمواطنة لدى الأفراد والجماعات في المجتمع، فالمواطنة هي أكثر أشكال العضوية في المجتمع الحديث اكتمالاً وتطورا، وهي أكثر حالات المجتمع السياسي والمدني تقدما، وهي الأساس الراسخ للديمقراطية دون حزلقة ورتوش. ففي إطار حل مسألة المواطنة، أي ترسيخها، يندرج حل جملة من القضايا والمشكلات التي بقينا نعاني منها حتى الآن: ‏

1 ـ فهي البديل الحاسم والعقلاني لصراع وتنافس الهويات والانتماءات المختلفة التي مافتئت تثير المصاعب أمام الاندماج والتكامل الوطني، وتهدد استقرار الدولة الحديثة، التي يفترض أن يتساوى فيها المواطنون بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية والجنسية... الخ. ‏

2 ـ وهي بما تتضمنه من حقوق وواجبات محددة دستوريا ومؤسسيا وبما تتضمنه من مساواة الأفراد أمام القانون والدستور تؤدي إلى الارتقاء إلى هوية مشتركة مشكلة الأساس الراسخ للديمقراطية والحرية. ‏

3-وبترسيخ وتطبيق حالة المواطنة يمكن الحد من الشكوك وانعدام الثقة بين الجماعات والفئات الاجتماعية المختلفة، وتخطي العقبات الذهنية والثقافية العتيقة المتولدة عن الانتماءات التقليدية ما قبل الوطنية والتي تعوق تكوين الدولة والمؤسسات والعقلية المؤسساتية. ‏

4 ـ إن ترسيخ مبدأ المواطنة لدى جميع أفراد المجتمع وفئاته يقطع الطريق على من يريد العبث بتماسك الوطن والوحدة الوطنية، وتفتيت الوطن وتقسيمه إلى قبائل متحاربة. ‏

هنا ولإزالة التباس ممكن فإننا نسارع إلى القول بأن مبدأ المواطنة لا يعني إلغاء الانتماءات الأخرى، بقدر ما يعني إعادة ترتيبها في الحس العام حيث يكون الانتماء إلى الوطن والدولة والقانون المدني، متقدما على أي انتماء آخر كالعائلة والعشيرة والإقليم والدين والطائفة والعرق، كما يعني معاملة الأفراد في المجتمع على هذا الأساس. ومن هنا الصلة الوثيقة بين الديمقراطية والمواطنة التي تفترض معاملة الناس بالنظر إلى انتمائهم إلى الدولة وخضوعهم للقانون المدني الوضعي والى كفاءاتهم كمواطنين، وليس إلى انتماءاتهم أو هوياتهم الدينية أو العرقية، وذلك هو ما يتيح للأفراد والجماعات في المجتمع الدولة حرية التعبير عن هوياتهم وممارسة حياتهم المدنية والسياسية في حدود واجبات وحقوق المواطن المحددة في دستور علماني. ولتوضيح التباس محتمل، فان العلمانية، في اعتبارنا، ليست ضد الدين، كما قد يفهم الساذجون أو المغرضون، بل هي المجال الثقافي الاجتماعي الذي في إطاره وحده يمكن أن تتعايش الأديان والطوائف الدينية وتتسامح وتثرى امكاناتها وتتكامل ‏

ولرفع التناقض الممكن بين الهويات والانتماءات التقليدية وبين مفهوم المواطنة والانتماء إلى الوطن لابد أولا من ترسيخ العقلانية في المجتمع ومؤسساته ونشر ثقافة المواطنة والتربية المدنية بالتنشئة الاجتماعية والتعليم والإعلام لتهيئة الظروف والرأي العام لقبول الاختلاف في الهويات والانتماءات المدنية والدينية والاثنية باعتباره تنوعا لا تناقضا وباعتباره حقا من حقوق الإنسان. ‏

«وسأهمس في أذن جميع المواطنين المسؤولين والسياسيين وجميع السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية والإعلامية وكل أبناء القبائل الأخرى: إذا كان الأمر يهمكم، فإن المواطنة بالمعنى الذي تحدثنا به عنها إذا كانت بالفعل، وليس نظريا أو في النصوص، تحل جميع "المشاكل" و"المنغصات" و"الإزعاجات" الممكنة للنظام السياسي، وتكون ضامنا لعدم انقسام المجتمع الوطن إلى قبائل متحاربة، في الوقت نفسه الذي تكون فيه مؤشرا على نجاح الحكومة والمؤسسات والنظام السياسي وجدارته وحسن أدائه. ‏

د.سمير إبراهيم حسن -عميد كلية الآداب في جامعة دمش

ليست هناك تعليقات: